الترجمة والنسيان

14 اغسطس 2021
(إحدى حكايات "ألف ليلة وليلة" في رسم لـ إدموند دولاك، 1907)
+ الخط -

يُعايِن الإنسانُ يوميّاً كيف يَهلك فيُنسى، ويرى كيف أنَّ آثارَه هي ما يُبقيه حيّاً خالداً، خصوصاً الفنيَّةَ منها لاقتدارها على اختراق الأزمنة والثقافات، ولانتصارها على الزوال المتمثِّل في النسيان قرينِ الموت والتلاشي.

وتُذكِّرنا الكتابةُ، بصفتها أثراً، بأنَّ نصيباً وافراً من التجارب والمغامرات والأحلام والآلام وغيرها، ممّا خاض فيه الإنسانُ وتخيَّله وكابده، مدى قرون وأجيال، وصَعُب عليه أن يصونه برمَّته، قد أفلح الأدبُ وحدَه في أن يُنقِذ جزءاً منه، على الأقل، بين دفّتَي كُتُبه، ليَضمن موطئَ قدم للماضي في الحاضر، ولِيصون للحاضر ذاكرة، فيقف بذلك سَدّاً منيعاً في وجه النسيان.

وواضحٌ أيضاً أنَّ الكِتاب هو الكائن الوحيد الذي يقف في وجه الموت، من خلال الكلمات التي تؤلِّفه، والتي تبني عوالمَ وتَبتكر شخصيات وأحداثاً تستمرّ في الوجود بعد رحيل من كتَبَها في نص. وقد أكَّد جورج ستاينر على ذلك في كتابه "شغف سليم"، لمّا ذهب إلى أنَّ "حياة القارئ تُعَدّ بالساعات؛ بينما حياة الكِتاب تُعد بالقرون [...] النصُّ الذي يتخطّى الزمان. إنَّ المرمر ينكسر إلى قطع، والبرونز يَتْلف، لكنَّ الكلمة المكتوبة - التي على ما يَظهر هي أكثر الوسائل هشاشة - تُواصل الحياة".

تريد الترجمة أنْ تُقنِع قارئها بأنها تقوم مقام "أصلِها"

صحيحٌ أن الكتابة تضمن الحضور للمؤلِّف في زمان ثقافته، فالشاعر الجاهلي والكاتب العبّاسي والمؤرِّخ الأندلسي تجدهم جميعاً يُقرؤُون في عصرنا هذا مثلاً، فهُم أحياء بأسمائهم وأقوالهم على هذا الأساس، لكنَّ حياتَهم تبقى ناقصة، لأنَّهم يظلُّون مجهولين أو في حكم الأموات في الثقافات الأُخرى، ولا شيءَ يضمن لهم حيوات أُخرى متعدّدة في ثقافات العالَم ولغاته سوى عند إعادة كتابة أعمالهم في غير لغتها، أي عندما يُترجَمون، وهو ما نصَّ عليه فالتر بنيامين، الذي ذهب إلى أنَّ حُلمَ كلِّ نص هو الاستمرارية في الحياة عبر العثور على مترجِم يُوصله إلى الآخَرين، فينتصرَ على النسيان.

تُخرِج الترجمة النصوصَ من النسيان، وتُمكِّن الثقافةَ من أن تحظى باعتراف الآخرين، وهذا ما عاينّاه في حال "ألف ليلة وليلة"، مثلاً، التي لم يلحق متْنَها العربيَّ أيُّ تغيُّر، والتي أتاحتْ لها الترجمةُ أن تخرج من رفوف النسيان، وأن تتجدَّد في لغات أُخرى، وأن تكون عيّنةً ممثِّلةً للثقافة العربيّة، فَتُستلهَم حكاياتُها في أعمال فنّية تتوزَّع بين السينما والمسرح وغيرهما، ويكفي التنويه باستحْضارها من قِبل الأرجنتيني بورخيس في كثير من نقده وحواراته، بل إنه كتب على منوالها بعضاً من قصصه التي أُرْتِج على بعضهم، فعدَّها نصوصاً من "ألف ليلة وليلة"، شأن قصَّته "الملِكَان والمَتاهَتان".

لقد تحقَّق لدى بورخيس في إبداعه المستلهِم "ألفَ ليلة وليلة"، التي قرأها مترجَمةً إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، على الأقلّ، ما يُسمِّيه الفيلسوفُ جِيلْ دُولُوز النِّسيانَ الفعَّال؛ ذاك الذي أُرجِّح أن يكون قد قصدَه خلف بن الأحمر لمّا جاءه أبو نواس مستأذِنا إياه في نظم الشعر، فاشترط عليه أن يحفظ ألف بيت. وبعد مدّة عاد إليه، واستظهر أمامه محفوظه، فاشترط عليه خلف ألّا ينظم شعرا حتى ينسى محفوظه، ولمّا نسيَه عاد إليه، فقال له خلف: الآن أُجيز لك أن تقرض الشعر! فكان لأبي نواس التميُّز بالإبداع الأصيل، لأنه عرف كيف يستأنف تراثَه الشعري في سياق تاريخي وثقافي جديد.

ويبدو أنَّ بورخيس قد أفلح في أنْ يُثريَ كتابتَه باستلهامه الوافدَ مترجَماً، وأن يَضْمَن له استئناف وجودِه في غير تربته، بل وفي أن يُحييه في نصوص جديدة من ابتكاره، ليُغنِي به وسَطه الثقافي واللغوي، محقِّقاً حياة جديدة للأصل.

تريد الترجمة أن تنتصر على أصلها بسعيها إلى أنْ تُقنِع قارئها بأنها تقوم مقام "أصلِها"، دون أن توهِم باستنفادِها لذلك الأصْل معنىً ومبنىً، لكنّ ما لا يخفى على المترجِم هو أن ترجمته تكون عُرضة للنسيان، لأن قدَرها أن تشيخ وتهرم فتُنسينا فيها ترجماتٌ جديدة.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون