التحريض على الأمل

26 فبراير 2021
قيس سلمان/ سورية (جزء من لوحة)
+ الخط -

المراقِب لحال الرواية في الغرب سوف يلاحظ تياراً قويّاً فيها بات يُقدِّم صورةً قاتمةً عن المصير البشري، مِن خلال التنبُّؤ بخراب العالَم، وتصوُّر ما بعد الخراب، أو خلاله. ففي المجتمعات المتقدِّمة باتت الصناعات العسكرية، مثلاً، أو حتى التكنولوجية التي تُحقِّق قفزات مرعبة في مستوياتها العلمية، تثير ذعر الروائيين. إنهم يرغبون في كبحها، أو فرملتها، أو منعها مِن الاستمرار في هذا التقدُّم الذي لا يحمل في أحيان كثيرة بذرة أخلاقية. لهذا تزداد أكثر فأكثر النبرة المندِّدة بالتكنولوجيا عبر محاولة التنبُّؤ بآثارها المدمِّرة التي قد لا ترتبط بأخلاق إنسانية رحيمة، أو يمكن أن تَعتبر أن الربح وحده هو المعيار الكافي للبقاء، بقاء المستغلّين.
 
والفارق بين العالم الغربي وعالمنا العربي واضح؛ إذ بينما يعيش الغرب أزهى مراحل تطوُّره العلمي داخل بلدانه، يغرق العالم العربي وسط دمار شامل علمياً وفكرياً وأخلاقياً. لا نجد في مجتمعاتنا العربية اليوم غير الحطام. لا الحرية بخير، ولا العدالة بخير، ولا توزيع الثروات، ولا الأوضاع المعيشية بخير، وقد فشلت جميع الثورات التي قام بها العرب لتحسين شروط حياتهم، وبدل أن تحلّ الديمقراطية المنشودة، ازداد عدد الطغاة، أو ازداد عنفهم وقوَّتهم، ونشأت عصابات قتل وتشليح وتهريب وتسليح، وأُهدر القانون، وخُرّبت الأيديولوجيات، وانهارت الأحزاب، وتحطّمت الأخلاق والسياسات، وبات الملايين من العرب، ومن السوريّين خصوصاً، مهجَّرين أو منفيّين أو مهدَّدين بالجوع والعطش والحرمان من الضروريات في الحياة. هل توجد في أي بقعة من العالم صورة أكثر بشاعة وظلاماً وقهراً من هذه الصورة؟

لماذا لم تُقدِّم الرواية العربية بعدُ عالماً روائياً موازياً لعالَم الدمار الواقعي الذي يحل منذ زمن بعيد يربو على خمسين عاماً في الواقع العربي؟ وكيف يمكن لأي نظرية أدبية تتحدّث عن العلاقة بين الواقع والرواية أو عن تمثيل الواقع في الرواية أن ترى وضع الرواية العربية والروائي العربي أمام هذا الدمار الشامل؟

تُحاوِل الرواية إعادة إنتاج حياة أُخرى أكثر قيمةً وعدالة

ونحن هنا إزاء احتمالَين في تحليل موقف الرواية العربية: إمّا أنها لا ترى الواقع جيّداً، وهي لذلك غير قادرة على التنبُّؤ أو لا تتجرّأ على التنبّؤ في واقع غامض يقول إننا بتنا بلا أمل. وهذا مستبعَد من جهة، وصعب جدّاً، وقاس للغاية كما أتصوّر، بل إنه يضع الرواية العربية أمام طريق مسدود، لا من حيث الموضوعات وحدها، بل من حيث التقنيات المبتكرة الممكنة. وإمّا أنّ الرواية (أو الشعر والفن العربي كلّه) لا تزال شابة وقادرة على اكتشاف أو التحريض على الأمل، وهي لذلك تغمض عينَيها عن الدمار المستمر (وهناك من بين الروائيّين من يندد بالديستوبيا).

لا تسير الرواية أو الشعر والمسرح في نهج مواز للواقع تماماً، إذ إنّ الفنون لم تكن في أي يوم مجرّد مرآة تعكس ما فيه مادياً، دون أن ننكر أنّ عشرات الروايات العربية تُصوِّر جوانب من الخراب. تحاول الرواية أن تتعالى على الواقع، تُرمِّم ما تهدَّم منه، ترتق الشقوق الكثيرة الفاضحة التي تُمزِّق جوانبه، تُعيد إنتاج حياة أُخرى أكثر قيمةً وعدالة، حياة تصلح للعيش فعلاً كما نشتهي ونتمنّى.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون