"البورخيسة" لمحمود عبد الغني: مكتبةٌ تختزل مدينة

24 يونيو 2024
يدلّ متن الرواية على تكوّنها من كُتب أُخرى
+ الخط -
اظهر الملخص
- "البورخيسة" لمحمود عبد الغني تستكشف التفاعل الإبداعي مع الأدب، مستلهمة شخصيات وأحداثها من أعمال سابقة وتأثرها بخورخي لويس بورخيس، مع التركيز على الواقعية السحرية وتطريس النصوص.
- تعكس الرواية أهمية القراءة والكتب في تشكيل الذات والإدراك من خلال تجربة البورخيسة، التي تعبر عن تأثرها العميق بالأدب وكيفية تأثيره على هويتها وواقعها.
- تناولت موضوعات مثل النسوية، الهوية، والإبداع، مؤكدةً على دور الكتب في تحرير الأفراد وتمكينهم من استكشاف عوالم جديدة من الخيال والإبداع، وتحقيق التواصل الثقافي والإنساني.

الأصل في الكتب أن يتناسل بعضها من بعض؛ فالتفاعل مع كتاب قد يدفع بعض الناس إلى التأثّر بخطابه، فيتبنّوا أفكاراً فيه، أو يعترضوا عليها، أو يستمتعوا بها... وهناك صنفٌ من الناس هُم النقّاد، لا يكتفون بقراءتها والاستمتاع بها، بل ينصرفون بعد فهمها إلى محاورتها وتأويلها والتعليق عليها، ومنهم من يهتمّ بتحويلها إلى لغة أُخرى ليُفيد منها قرّاء آخرون في لغة أجنبية غريبة، وهؤلاء هُم المترجمون، ومنهم من يتّخذها تعلَّة لاستلهام بعض ما ورد فيها ليُنتِج كتابة أُخرى حول تلك الكُتُب وأصحابِها، ليس نقداً وإنّما إبداع، وتلك هي الميزة التي لرواية "البورخيسة"، لمؤلّفها الكاتب المغربي محمود عبد الغني.

تؤكّد الرواية، الصادرة حديثاً عن "منشورات المتوسّط"، انتماءها صراحةً إلى الصنف الأخير من الكتب، ذلك أن متنها يدلّ على تكوّنها من كُتب أُخرى، ففيها من العناوين الروائية ما يُفيد أنّها تسترفد عوالمها ووقائعها من كُتب سابقة، مثل رواية "مكتبة باريس" لـ جانيت سكيزلين شارلز، و"مزرعة الحيوان" لـ جورج أورويل، و"عاشق الكتب" و"رائحة الكتب" لـ جيامبيرو موغيني، ناهيك عن أنّ عنوانها مشتقّ من اسم المؤلّف الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس.

ثم إنّ شخصيتها الرئيسة البورخيسة تتماهى مع شخصية أوديل في "مكتبة باريس"، فتتمنّى قائلةً: "لو عشتُ في زمن الحرب. أتذوّق طعم القذائف مثلما تذوّقته أوديل في مكتبة باريس"، كما تشي الرواية في مواضع كثيرة باستلهامها أجواء وصوراً سردية من روايات عالمية كُبرى مثل "البحث عن الزمن المفقود" لـ مارسيل بروست، عند قول البطلة مثلاً: "جلستُ وتنهّدتُ بكلّ ارتياح. طلبتُ حليباً ساخناً وقطعة كرواسان. وضعتُ قطعة صغيرة في فمي، وبقيتُ أتلذّذ بطعم الشوكولاطة".

تنظر بطلةُ الرواية إلى المكتبة بعينَي بورخيس

ويَظهر هذا التفاعل بشكل أوضح في تبنّي "البورخيسة" روح الواقعية السحرية نصّيّاً بشكل لا يمكن أن يَخفى على المتمرّس بالقراءة، في صورة لطيفة هي التي عرّفها جيرار جنيت بالتطريس Palimpsesto، لِتنمّ عن التأثّر بتلك الأجواء التي يختلط فيها الواقع بالخيال، وعبّرت عنه الرواية الأميركولاتينية، التي اهتمّت بإدماج الأدبي في التصويري، فتداخل فيها الحلمي مع الواقعي، كما في تلك الصفحات الثلاث، من التاسعة عشرة إلى الحادية والعشرين، التي تحقّق فيها للبورخيسة لقاءٌ في الحُلم مع بورخيس.

ويُلمس ذلك بصورة أجلى في المقطع التالي: "حين عزفتُ لوقتٍ طويل أحسستُ أنّ بإمكاني الطيران في فضاء الغرفة. والريح التي كانت تهبّ في الخارج كانت تحملني إلى أعلى سقف بيتي. أحسستُ كأنّها تهبّ على المرج، وتُحرّك أعشابه الطريّة. فردتُ يديَّ مثل جناحَين. بتلك الطريقة أكون أكثر خفّة، وأُساعد الريح على حملي إلى أبعد مكان. أغمضتُ عينيَّ وحملتني إلى البحيرة المجاورة لبيتنا. رأتني أُمّي وتبعتني تركض حافية القدمَين وهي تصرخ باسمي. استدرتُ، وعُدتُ حتى رأيتُ باحة البيت حيث كان يلهو إخوتي الثلاثة قبل أن يدعوَهم أبي إلى الدخول. ثم نزلتُ ببطء وأنا أَحذر أنْ أنزل فوق رؤوسهم. دخلتْ والدتي من الباب وهي تلهث وتصرخ وتلطم صدرها"، وهو مقطعٌ يُذكّرنا برواية "مئة سنة من العزلة"، لمّا حلّقت عمّة غابرييل غارسيا ماركيز عالِياً ثم اختفت، ويُرسّخُ في ذهننا أنّ النصوص لا تأتي من عدم، بل إنها تَصْدر عن التفاعل مع نصوص أُخرى.

ويبدو هذا التأثّر صريحاً في اعترافات البطلة، فهي لم تتردّد في مخاطبتنا نحن قرّاءَها قائلةً: "انظُروا ماذا صنعت الكُتب بي. أنا مثلي مثل الطبيعة المستيقظة من رقادها. تيَّارٌ من الحُلم يجرف روحي". لقد تحوّلت البورخيسة إلى كاتبة بسبب قراءتها الكتب. "البورخِيسة" هو عنوان الرواية، وهو النعت الذي أَطلَقته البطلة سارة على نفسها بعد منام تراءى لها فيه بورخيس، وعند استيقاظها قالت عن نفسها: "لقد أصبحتُ بورخيسة صغيرة رغم أنّني لا أعرف منه غير الاسم".

تحكي البورخيسة وقائع حياتها بضمير المتكلّم، ولا يخفى أنّ توظيف هذا الضمير يُرشّح كلَّ عمل روائي لكي يدنو من أدب الاعتراف، ويُعزِّز هذا الرأي لديْنا أنّ البطلة تعترف قائلةً: "كما أنّني أؤمن بفنّ كتابة المذكّرات"،  ويؤكّد ذلك مخاطبتُها القرّاء: "اسمي تعرفونه"، واعترافاتها لهُم بأمور حميمة تخصُّها: "كنتُ فتاة جميلة فتحوّلت إلى فتاة قبيحة".

كلُّ إنسان لا تحيط به الكُتب هو محرومٌ من النعمة

الفضاء المركزي للرواية هو المكتبة، المكان الذي اعتبره بورخيس تجسيداً للفردوس، لأنه تعرّف فيه إلى العالَم بأديانه وأساطيره وثقافاته من دون أن يخرج إليه، وفيه عثر على السعادة أيضاً، ولم تتردّد البورخيسة في النظر إلى هذا المكان بعينَي بورخيس، وأن تُنتِج خطاباً على غرار الكاتب الأرجنتيني بقولها: "لا حرّية للإنسان إذا لم يُثبت جدارته أمام الكُتب، ويدعها تُثبت جدارتها أمامه. يكفي أن الكُتب كلّها تتحدّث عن العدالة، وكلُّ مؤلِّف لا يتحدّث عنها، فهو مجرّد وغد... وكلّ إنسان لا تحيط به الكُتب، فهو محروم من النعمة".

لكنّ البورخِيسة/ سارة، بطلة الرواية، بالإضافة إلى ربحها للسعادة، ربحت المالَ من عملها كُتُبيّةً، وهو ما قد يستغربه الجميع، لأنّ كلّ الخائضين في مجال الكتابة، خاصّة الناشرين والكُتُبيِّين، يُشيرون إلى الأزمة المالية التي يشهدها قطاعُهم، في الوقت الذي يواصلون فيه إصدار الكُتُب، وهي تنبري لتُلحّ على أنّها بالعيش فيه وبـ"واسطته كسبت الكثير من التجربة والمال"، بل إنّها كاشفت قارئها بأنّ فضاء المكتبة هو "الكنز الذي عثرتُ عليه أنا شخصيّاً... وأعود إليه بتشوّق في الصباح حين أُغادره في مساء اليوم الماضي".

فضاء المكتبة جعَل البورخيسة تنطق بعبارات تتماهى مع بورخيس نفسه، كقولها على غرار ما رأينا قبل قليل: "الكتُب تضفي الشرعية على الكون، على كلّ شيء في الكون"، ويكتشف القارئ أنّ هذه المكتبة فضاءٌ يقع في مدينة الرباط. التحقت البورخيسة بالمكتبة لأجل العمل، بعد إجرائها مقابلة تقدّمت إليها بمعيّة أربعة شبّان آخَرين، وقد مكّنتها شخصيتُها الصريحة والعفوية من كسب ثقة مُمتحِنَيْها (السيدة راوية مديرة المكتبة وزوجها)، بعد إجرائها امتحان الالتحاق بالمكتبة.

وتتضمّن الرواية، أيضاً، خطاباً نسويّاً صريحاً، ينهض على وعيٍ روائيٍّ يَحمل رؤية متوازنة ومتنوّرة إلى طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تسود بين الرجل والمرأة؛ ويبدو أنّ في اختيار محمود عبد الغني المرأةَ بطلةً لروايته إفصاحٌ عن موقف نسويّ صريح، على أساس فهم النسوية على أنّها - وفق تعريف إستيل فريدمان - "الاعتقاد بأنّ النساء والرجال لديهما بالتلازم القيمة نفسها"، ويجد خطاب النسوية مُبرِّرَه في مُشكل الهيمنة الذكورية، التي تسعى إلى تأبيد خطاب وحيد هو خطاب الرجل.

اهتمّ الروائي بتقديم سارة لقارئه بصفتها امرأة قوية، تتميَز باجترائها، وبرؤيتها لنفسها "امرأة حرّة وعاشقة للرجال"، وأنّها على علم بمركز القوّة في ذاتها: "إن نقطة الارتكاز في شخصيّتي هي التصرّف بحرّية، بأقصى ما يُمكن من الحرّية، وعدم الاعتراف بالقيود"، وتُؤمن بأنّها بعملها في المكتبة ستكون لها فرصة للتزوُّد بقوّة جديدة، إنها "القوّة التي سأكتسبها هذه المرّة من الكُتُب".

تنجح البورخيسة في الحصول على تآزر نسوي لافت، "لكن نفسي عادتْ إلى الاطمئنان حين وجدْتُ أنّ تعلُّق السيّدة راوية وزهرة بي هو أدعى للخير منه إلى أيِّ شيء آخر"؛ حيث إنّها انتبهت إلى أنّها تحوّلت سُلطةً داخل المكتبة، أو بالأحرى إلى مُخرجة لمسرحية حياة: "وأراقِبُ الجمهور وأنا واقفة داخل المكتبة من وراء زجاج الواجهة، كأنّني مُخرجة المسرحية الصغيرة المُدهشة التي بلا ممثّل ولا نصّ".

الرواية كتابة، وكلّ كتابة هي حسب غادامير "احتجاج على تدنيس ما". ويبدو لي أنّ للتدنيس تجلّيات كثيرة في "البورخيسة"، كالتدخين داخل المقهى، أو الرجل العابس الإداري رمز المستبدّ ومجسِّد كراهية النساء، والمضطهد للمنظّفة العجوز باستمرار، "إنه في كلّ وقت يُنادي على تلك المرأة العجوز لتنظيف مكتبه، كأنّه عملاق يلهو بجسد مُتلاشٍ، هي المسكينة التي تأتي إلى العمل كلّ يوم مُعنَّفة من طرف زوجها. وقد دفعه حقده على البورخيسة أن نبَش في تاريخها، لمّا كانت تعمل في 'مكتبة دار الفراشة'، وهدّدها بقوله: هذه الفتاة الطائشة أرادتْ أن تكون مثل بورخيس، أنا فعلاً سأجعلها مثل بورخيس. سأطردها من المكتبة مثلما طُرِد بورخيس من مكتبة بلدية بوينوس آيْرِس، وسأجعلها تبيع الدجاج والأرانب في الأسواق مثله".

"البورخيسة" رواية ممتعة بأدبيتها، وفي الوقت ذاته تتميّز بتوافرها على سمات الرواية السوداء، أي البوليسية، وتَعِد قارئها بأنّ جزءاً ثانياً لها سيأتي لا محالة، لأنّ نهايتها ظلّت مفتوحة على احتمال استئنافها.


* أكاديمي ومترجم من المغرب



بطاقة

محمود عبد الغني شاعر وكاتب ومترجم مغربي من مواليد عام 1967، يعمل أستاذاً للأدب الحديث في "كلّية الآداب والعلوم الإنسانية" بالرباط. "البورخيسة" (2024) هي روايته السادسة بعد: "الهدية الأخيرة" (2012)، و"أكتب إليك من دمشق" (2016)، و"معجم طنجة" (2016)، و"أوسكار" (2018)، و"في الصيف والخريف معاً" (2019). من إصداراته الأُخرى ترجمة لرواية "مزرعة الحيوان" (2013) لجورج أورويل، وكتاب "معجم المصطلحات الأساسية في الترجمة الأدبية" (2017).

المساهمون