البراغماتي

12 نوفمبر 2021
"موت طفل" لـ محمود صبري، 1963
+ الخط -

سعد من المنتمين روحياً إلى الأدب الكلاسيكي الروسي، قرأه وتأثّر به. وعلى الرغم من الفقر الذي أصاب البلاد في التسعينيات، إلّا أنّ دور النشر المزدوجة الروسية العربية والمدعومة من الدولة الأمّ، وفّرت تلك الكتب بطبعات أنيقة، وبسعر رمزي لبغداد. قرأ الكثير لدوستويفسكي وعنه، واقترب منه كثيراً حين قرأ "الجريمة والعقاب"، ثم راح يتتبّع حياة "سيّد بطرسبرغ" كأنّه يهتمّ لأمر نبيّ أو إمام، فلم يترك مسوّدة أو رسالة كتبها أو كُتبت له إلّا وأجهز عليها.

لقد تمثّل بشخص فيودور كأنه أصبح هو ذاته، ولكن بسمات عراقية. وقد نعزو ذلك لتشابه الأحداث بين الشخصيّتَين؛ فسعد تُوفّيت زوجته قبل فترة وجيزة، وهو يعيش في فقر مدقع، مثلما عاش الروائي الروسي في تلك الفترة. لذا نجد أنّ سعداً صار يشبهه حتى في سحنته وذقنه الطويل، فعندما يسير في شوارع المدينة تحسب أنه فيودور قادماً من منزل الأموات. ورغم أنّنا لم نعثر على فيديو لـ"فيدرو" وهو يتمشّى لنقارن بين الاثنين، إلّا أنه يشبهه في امتلائه وتحدّب ظهره واختفاء عينيه الصغيرتين داخل وجهه.

تلبّس بفلسفة راسكولينكوف، بطل رواية دوستويفسكي الأشهر، وأصبح عدمياً لا يهمّه مستقبله أو مستقبل العالم من حوله. كان بائساً كئيباً، لا يأبه لمشاعر الآخرين وآرائهم، حتى أنّه لا يتردّد في وصفك بالتافه أو السطحي إذا ما وجد ذلك فيك، ولا يترك لك ابتسامة التحية حتى لو بادرت بها أنت.

لقد كان هكذا كأنه يحمل معه همّهُ العراقي وهم راسكولينكوف معاً. وبالطبع كان مُديوناً لصاحب السكن، ولم يأكل لأيام عديدة سوى صحن من الأرز الأبيض، صحن أرز يخلو من أيّ إضافة، صلصة أو مرق.

ذهب سعد لخيار الانتحار لمرّات عدّة، وفي كل مرّة يحدث شيء ما يحول دون ذلك، آخرها في العام 2003 حيث كان ينوي أن يرمي نفسه في نهر دجلة، ليحقّق رغبة راسكولينكوف في الانتحار عند "نهر السين". لكن صوت الطائرات الأميركية تركت في نفسه الفضول للبقاء حيّاً، وانتظار ما تحمله تلك الطائرات لحياته الجافّة.

عرف بعد ذلك أنّ الأميركان قد دخلوا بغداد فوق دبّابات البرامز، والتي تحمل معها فلسفة أميركية جديدة تُدعى "البراغماتية". واجه صعوبةً في التعرُّف على ماهية تلك الفلسفة، فلم يكن بعد قد تُرجم كتاب للّغة العربية يتحدّث عنها. لم يجد سوى بعض المقدّمات في المعاجم الفلسفية، وبعض المداخل عنها، حتى أنّه اضطر للبحث عن معنى الكلمة لغوياً فوجد أنها تعني "ما هو عملي".

وبعد ذلك، وبتعدّد مصادر البحث والعثور على ترجمات جديدة لبعض الكتب، فهم العمودَ الفقري لتلك الفلسفة التي أبهرته وأثارت فضوله.

تُعنى الفلسفة البرغماتية بالنتائج أكثر منها بالطرق التي تسلكها لتلك النتائج، سواء ارتكبنا حماقات وتنازلات أخلاقية أو دينية أم لا، نحكم على فائدة تلك التي تُدعى البراغماتية بحصد نتائجها النهائية، هذا ما قرأهُ عنها.

وفي فراغ فكري عاشه لأيام حتى انتهى من الفلسفة العدمية الروسية وملأت روحه تلك البراغماتية الحديثة، فتبدّل وجهه وبرزت عيناه من محجرهما المظلم، وسرعان ما استعاد صحّته وحلق لحيته، وصار يردّ الابتسامة بأحسن منها ويحاذر جدّاً من أن يجرح أحداً بكلمة أو إشارة، وما هي إلا شهور في العمل بستايله البراغماتي، حتى حصل على وظيفة في أحد مخازن شركة "بيبسي" العالمية، وصار مسؤولاً عن جوقة من العمّال الفقراء.

لقد كان من الصعب أن تتحدّث معه في أمر شخصي أو أن تطلب منه إجازة. لم يكن يعني له شيئاً إن توسّلت له لمرض أصابك أو كرب مسّك، سيتركك تعمل وتلتزم بوقت مناوبتك المتّفق عليه، ولن يهمّه سوى نتائج العمل ومعدّلات النمو.

لقد تحوّل إلى أرستقراطي حقيقي، بعد أن حظي بتقدير المدراء، وحصل على مكانة وظيفية جديدة براتب ضخم، لقد غادر سعد البؤس إلى الأبد، ويمكن ملاحظة ذلك بمقارنة صورتَين لنفس الرجل تقارن فيها حاله قبل عام 2003 وما بعدها. لقد كانت سنة مفصلية بالفعل.

وبعد عدّة سنوات اكتسب فيها الخبرة والحنكة، وتلبّس تلك الفلسفة الجديدة كأنه هو من نَظّر لها، قرّر أن يدخل العملية السياسية، حيث زعم أنّ فرصه ستكون كبيرة في عملية سياسية حديثة النشوء، ذلك لأنه هو الوحيد الذي يملك رؤية واضحة واستراتيجية جديدة، الخطة البراغماتية، هذا ما كان يقصده، والتي سرعان ما تطوّرت لتبدو بشكل عراقي أكثر، حتى أنه صرّح مرّة، أنّ برغماتيته جديدة ومعدّلة عن النسخة الأصل لـ تشارلز ساندرس بيرس، حيث قال: "براغماتيتي تختلف كثيراً عن برغماتيته".

سرعان ما تسلّل سعد في كاره الجديد وتملّك مكاناً قيادياً مرموقاً، حتى شعر أنه قد تحوّل من رجل غلبه القدر إلى شخص آخر هو من يتحكّم بأقدار الآخرين، ويقيناً أنه قد هجر فيودور وما يكتبه. تسلّم سعد ملفاً مهمّاً جدّاً وحساساً، ملف الاستثمار الأجنبي في النفط العراقي، وقد أُوكل له أن يعمل على تعبيد الطريق أمام القرارات الأميركية بهذا الشأن.

خُيّل لسعد أنّ مهمّته سهلة جدّاً، الوضع الجديد للبلاد، التي تبدو كأنها ورقة بيضاء من غير ملامح سياسية، بلد قد ودّع العروبية والقومية والنَفَس الاشتراكي للتو، وغدا فارغاً من أيّ توجّه، ولا يملك راية فلسفية تقوده أو تحدّد ملامحه. لقد حُلّ الجيش للتو، وذابت جميع الكيانات الإدارية للدولة، إنها أرض بور خالية من أيّ شيء. هذا ما حفّز سعد على أن يشعر بسهولة المهمّة، ولن يجد أيّ حواجز تحدّه عن منصبه الجديد الذي سيناله قريباً، أن يكون الرجل الأوّل في الدولة.

لم تخب توقّعاته، فحينما شرعت وسائل الإعلام تتحدّث عن قانون "جولات التراخيص" وعن التطوير الأجنبي في قطاع النفط، لم يلاحظ أيّ أصوات معارضة، سوى تلك الأصوات التي جاءت من البصرة، ثمانية رجال مختصّين في مجال النفط وعاملين في هذا القطاع لسنوات، يبدو أنهم يدعمون العمل النقابي وقد ظهروا في مظاهرة بسيطة في أحد الشوارع العامّة، مع لافتات صغيرة يطالبون بعودة النقابات، واليوم هم الصوت الوحيد الذي يعارض قانون سعد البراغماتي، حيث دعوا لمؤتمر تشاوري يلتقون فيه مع أغلب زملائهم العاملين في هذا القطاع من كل المحافظات الأُخرى، وغيرهم من الإعلاميّين المهتمّين، لغرض تشريح القانون الجديد وتعريته.

حصاة واحدة في طريق سعد يمكنه أن يزيحها بإصبع قدمه الصغيرة، والمضيّ قُدماً باتجاه منصبه الجديد. عبوة لاصقة واحدة في السيارة وينتهي كل شيء وتختفي تلك الأصوات، هذا ما كان يفكّر فيه ليلة المؤتمر.

لكن طيفاً زاره في تلك الليلة انتزع منه تلك الروح البراغماتية، وأحلّ بدلاً منها روحاً فلسفياً أُخرى. لقد زاره في منامه فيودور دوستويفسكي، خطا نحوه بعوده الهزيل ووجههُ الشاحب، كأنه وجه المسيح، وقف عنده وقال له: "يا سعد إنّ هذه المسألة مسألة أخلاقية بالفعل، وإنّ روحك الجديدة لن تحتمل عواقبها. إن كنت تنوي فعلاً أن تقوم بذلك فتذكّر محنة راسكولينكوف يا ولدي، تذكّر محنة كُلّ القتلة في العالم، ستجد نفسك تدور حول مكان الجريمة، ويُفتضح أمرك ويكشفك الناس، وستنتهي إلى السجن، وهذه المرّة سيكون جسدك معذّباً وروحك خاوية، لا تفعل ذلك يا سعد، سيبصق عليك العدم من هناك، إياك يا سعد إياك".

استيقظ في ذلك الصباح وكأنه شخص آخر غير ذلك البراغماتي، تحرّرت تلك الروح الشريرة من جسده وذابت في الهواء، وعاد سعد بقلبه الخفيف يتنطّط من السعادة، وقد شُوهد آخر مرّة وهو يسير في اتجاه جسر الجمهورية الذي يمر فوق "نهر دال".

يُذكر أنّ الصحف تناقلت بعد ذلك خبر اغتيال الرجال الثمانية بعد أن جرى اختطافهم وقتلهم ورمي جثثهم في نهر دجلة.


* بتاريخ 11 كانون الثاني/ يناير من عام 2007، تم اختطاف ثمانية من أعضاء "اتحاد المجالس والنقابات العمّالية في العراق" (FWCUI) بينما كانوا في طريقهم لحضور مؤتمر صحافي وُصف بأنه ينتقد قانون النفط.


بطاقة
كاتب عراقي من مواليد مدينة البصرة عام 1993. يقيم في بغداد ويعمل في مجال النشر وصناعة الكتاب. صدرت روايته الأولى، "خطّة لإنقاذ العالم"، عن "دار الرافدين" عام 2020، ومجموعته القصصية "كتاب الكوابيس" عن منشورات "مقبرة الكتب" عام 2021. تصدر له العام المقبل مجموعة قصصية بعنوان "لو أنني منعتُ الديمقراطية من أن تركب على ظهر الدبابة"، وهي المجموعة الحائزة منحة تفرّغ من مؤسّسة "مفردات" في بلجيكا.

المساهمون