يرتبط الاستعراض في الغالب بالحضارة الحديثة، بل إنّ مكانته قد ازدادت حضوراً وقوّة بعد ولادة وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصّة فيسبوك وتويتر، بوصفهما من أكثر الوسائل استخداماً من البشرية من جهة، وكونهما يعملان بنظام الصداقات الافتراضية التي تمكن أن يصل عددها إلى الآلاف.
والميزة العظيمة الأُولى التي نشأت على خلفية هذه الوسائل، هي حيازة أعداد هائلة من البشر القدرة على التعبير العلني الحرّ والمجاني، غير المرتبط بأيّ قيود، عن آرائهم في كلّ مناحي الحياة والفكر. إنّها مواقع للتعبير، أو لحرّية التعبير، لم تكن متوفّرة من قبلُ في كثير من بلدان العالم، خاصة تلك التي تحكمها أنظمة رقابة متشدّدة، أو غير متشدّدة، على حرية التعبير، وغيرها من الحرّيات بالطبع. من الصعب على من يؤيّد حرّية التعبير استخدام كلمة "ولكن"، أي يجب أن لا نستدرك على الحرية خوفاً من القيود، ولا يدعو مؤلّفا كتاب "الاستعراض" (جستن توزي وبراندن وورمكي) إلى أيّ قيود تكبّل هذه الحرّيات، وإنما يقدّمان كشفاً لبعض طُرق استخدام هذه الحرية الذي قد يتّسم بالعدوان على حرية الآخرين.
وتعريف الاستعراض الأخلاقي في رأيهما هو أنه يعني اللجوء إلى الكلام في الفضيلة، من أجل تسويق الذات. غير أن المسألة لا تتوقّف عند عتبة التسويق. اللافت هو أن المستعرضين يتحوّلون إلى متباهين يعتبرون أنهم قادرون على وضع أنفسهم بسبب الفضيلة الأخلاقية التي يحوزونها، برأيهم، فوق الآخرين أخلاقياً.
الاستعراض الأخلاقي هو لجوء إلى الكلام في الفضيلة لتسويق الذات
وأخطر ما في الأمر هو التخلّي عن القيم الأخلاقية العامة، أي أن المستعرض قد يستخدم وسائل غير أخلاقية من أجل تثبيت قيمة أخلاقية ما، وأكثر ما نراه اليوم في حياتنا العامة هو تحوُّل عدد كبير من مستخدمي وسائل التواصل إلى زجر الآخرين من أولئك الذين يختلفون معهم في الرأي، عبر هذه الوصاية التي يمنحونها لأنفسهم، بحيث يحوّلون التواصل إلى قطيعة.
ثمّة عرَض خطير من أعراض الاستعراض هو محاولة كسر الخصوم عبر اللغة، فمَن لا يحبّذ سياسة الائتلاف (أي "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة") على سبيل المثال، يطلق عليه اسم "الاعتلاف"، ومَن تنشأ بينه وبين بعض أطراف المعارضة، السورية بالطبع، خلافات في الرأي، يختصرها بتسمية الآخرين "المعارصة"، وتستخدم كلّ مفردة مجرّدة من أيّ تحليل أو توضيح أو شرح، أيّ أن المختلف، الذي سيُدان أخلاقياً بسبب الخلاف السياسي، يُوضَع أو يعلَّب تعليباً حصرياً في مفردات سريعة يُقصد منها التحقير والازدراء، مع تغييب السياسة والرأي السياسي، أو اختصار السياسة في الشتيمة، في مقابل إظهار الموقف الشخصي، والشخصي حصراً، إذ أنه يتعلّق بالاستعراض، على أنه مُشبع بالفضيلة. وسوف تُترك مثل هذه المفردات سائبة بين أيدي المستخدمين الآخرين، أي أولئك الذي سيقرؤون المنشور، ويعلّقون عليه. لن تقرأ في الغالب مناقشاتٌ أو اعتراضات ذات أهمية، ذلك أن الاستعراض يطاول المستخدمين الآخرين أيضاً، الذين قد يتباهون أيضاً عبر استخدام وسائل التفاعُل المتاحة في الوسيلة، إلى الحدّ الذي يجعل مؤلّفَي الكتاب يطلقان على فيسبوك مثلاً اسم "محكمة التفتيش".
* روائي من سورية