الاستثناء والقاعدة في التطبيع المسرحي

04 يناير 2021
من رسمة حائطية بالقرب من بيت لحم
+ الخط -

رغم كل الانكشاف التطبيعي الإماراتي وتحالف نظام الإمارات مع المشروع الصهيوني، ما زالت ما تسمى "الهيئة العربية للمسرح" تتستّر خلف شعارات فضفاضة، وتسيطر على بعض المهرجانات الوطنية العربية للمسرح، بـ"دعم مالي" وشراء ذمم بعض المسرحيين العرب الذين لا يخفى عليهم المستوى المتدني لهذه "الهيئة" التي أسهمت في انحدار المسرح العربي وإعدام أسئلته.

ما نشهده منذ عشر سنوات هو تهميش مدروس للروح الوطنية النقدية وثقافة الكرامة والمقاومة في المسرح العربي من خلال الدعم المسموم  للمهرجانات الوطنية في بعض الدول العربية التي تعاني من أزمات اقتصادية، وإقصاء المسرحيين الحقيقيين من المشهد، ليؤدي ذلك إلى تحويلهِ أداةً في خدمة مشروع حكومة خليجية في تماهيها مع المشروع الصهيوني، واستمالة طبقة من "المسرحيين" العرب القابلين للتطويع، ودمجهم في المستقبل القريب في مهمة قبول الاحتلال الإسرائيلي، كجزء من "الشرق الأوسط"، بل ودمجهم المشروع الصهيوني ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً في المنطقة. 

ونحن لا نستبعد إقامة مهرجان تل أبيب للمسرح برعاية هذه "الهيئة"، ولا نستغرب أن نجد بين من يمثلون أدوار "مسرحيين عرب" رواداً ومشاركين. فنحن نشهد اليوم بعض من يسمّون أنفسهم "مثقفين" و"فنانين" و"إعلاميين" إماراتيين يتهافتون على الانصياع لرغبات الصهاينة، وآخر هؤلاء مغنٍّ إماراتي مغمور زار حائط البراق في القدس المحتلة، وهو بالطبع لم يجرؤ على زيارة المسجد الأقصى المبارك، بل إنّ عدم محاولته زيارة المسجد الأقصى هو رسالة مفادها: أيّها العرب ليس لكم شيءٌ في القدس، فهي خالصه للصهاينة، وهذا ما بات خطاب أبواق وحكومات في الآونة الأخيرة، وعجبي من المسرحيين العرب الحقيقيين على صمتهم وانغلابهم على أمرهم، أمام هذا الانهيار الكامل لمنظومة الخطاب الثقافي واستقلاليّته، ومحاولة تجييره لخدمة مشروع صهينة الخطاب الثقافي العربي.

هل ينتظر المسرحيون العرب عودة غودو لحفظ القليل من كرامة المسرح العربي

ثُمّ ما الثمن البخس الذي يُدفع لهم؟ أهو كلفة المشاركة في بعض المهرجانات المسرحية العربية التي تخلو فعلياً من المسرح، ودعوتهم إلى "لاس فيغاس العرب" وبعض العواصم العربية المغلوبة على أمرها التي تحتلها "الهيئة العربية" خلال أيام انعقاد المهرجان الوطني للمسرح في هذه الدول؟ وهي طبعاً دعوات من أجل "التسحيج" للهيئة ورئيسها وأعضائها، وهؤلاء هم المستفيدون أصلاً، فلهم رواتب كبيرة وإقامة دائمة في الإمارات مع ألقاب وهميّة، ولا ننسى في نهاية كل مهرجان ومناسبة الدعاء لصاحب السمو الشيخ المُحسن على المسرحيين صاحب الرؤية الأفقية الثاقبة، التي نخشى ما نخشاه أن تتوّج بتوأمة بين المسرح الوطني الإماراتي و"المسرح الوطني الإسرائيلي"، كما حصل أخيراً في الدعم الإماراتي لِنادي "بيتار أورشليم"، كجزء من صفقة التطبيع الإبراهيمية.

فهل ينتظر المسرحيون العرب عودة غودو لحفظ القليل من كرامة المسرح العربي، أم نحن أمام رائعة بريخت "الاستثناء والقاعدة"، التي ينتصر فيها التاجرُ القاتل؟ 

تدور حكاية "الاستثناء والقاعدة" حول أحد التجار الذي يقوم برحلة شاقة، بهدف الحصول على امتياز استخراج البترول في مدينة بعيدة، ولذلك كان يتحتّم عليه السفر إليها. ولأن بعض المنافسين له كانوا يريدون أن يحققوا الهدف نفسه، كان عليه أن يصل قبلهم، لذلك استأجر دليلاً يدلّه على الطريق المختصر، وحمّالاً يحمل حقائبه، وكان يحثهما على الإسراع بطريقة غاية في القسوة. وفي رحلة مثيرة مليئة بالأحداث، تتعرّض العلاقة بين التاجر والحمّال والدليل لحالات من المدّ والجزر، تتجلّى من خلالها بشاعة رؤوس الأموال التي عانى منها العالم، حتى يصل الأمر بالتاجر إلى الاستغناء عن الدليل في منتصف المسافة، لمجرد شكّه في أنه قد يتآمر عليه مع الحمّال، ويصبح الاثنان ضده، فلا يتمكن من مواجهتهما. ثم قتل الحمّال بعد أن ظنّ أنّه سيُقدِم على قتله، لما لقيه منه من شتى ألوان العذاب، وسوء المعاملة خلال تلك الرحلة. 

وفي جلسة المحاكمة وفقاً للدعوى التي أقامتها أرملة الحمّال على التاجر، تقضي المحكمة بأنّ القاعدة تقول إنّ من الطبيعي أن يظنَّ التاجر بأنّ الحمّال قد يطمع في ماله ويقتله، وحتى لو أنّ الحمّال لم يفكر في هذا كاستثناء، غير أنّ المحكمة رأت براءة التاجر، باعتبار أنّه سار وفقاً للقاعدة، التي تقضي بأنّ "التقدم" و"الازدهار الاقتصادي" معبَّدان بدماء الأبرياء.


* مخرج وممثل مسرحي فلسطيني من القدس

المساهمون