استمع إلى الملخص
- بدأت رحلة الترجمة في 20 فبراير/شباط 2013 بلقاء في فندق موفنبيك برام الله، حيث تم توزيع المجلدات والشروع في مشروع ترجمة ضخم يجمع بين التحديات اللغوية والثقافية.
- خلال الترجمة، واجه المترجم تحديات لغوية وثقافية وتقنية، لكن التعاون مع صقر أبو فخر والفريق أثرى المشروع، محولًا إياه إلى عمل موسوعي يحمل بصمات جماعية وشخصية عميقة.
لا أعرف إذا كان اسم غوستاف دالمان قد مثّل لي يوماً ما كابوساً، ولكنّي بتُّ أعرفُ يقيناً بعد أن أخذت الترجمة عشر سنوات في العمل الذي أكبَّ عليه دالمان عقوداً، وحمل عنوان "العمل والعادات والتقاليد في فلسطين"، أنّ سِفراً مثل هذا لا غنى عنه معرّباً.
سيبقى اليوم العشرون من فبراير/ شباط 2013 محفوراً في ذاكرتي. إنّها السابعة مساء حين التقينا على طعامِ عشاءٍ في فندق موفنبيك (حالياً ملينيوم) في رام الله. المرحوم فايز الصياغ، مدير وحدة ترجمان في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في حينه، كان ضيفاً ومضيفاً في آنٍ، والمرحوم كمال عبد الفتاح، الذي دعاني إلى اللقاء الذي تمحورَ حول تعريبِ موسوعة غوستاف دالمان. عليّ في هذا المقام القول إنّ عبد الفتاح كان أوّل من سمعتُه يتحدّث عن دالمان وعمله الموسوعي قبل اللقاء بسنوات.
على مائدة الطعام، كان صديقان قد أتما دراستهما العليا في ألمانيا، علاوةً على المرحومة الكاتبة ليلى الأطرش. وبعفويته المعهودة، وزّع "شيخ الجغرافيين الفلسطينيين"، (لقب عُرِف به كمال عبد الفتاح)، افتراضياً المجلدات على الحاضرين وعلى غائبين، ممن كانوا على صلةٍ بالموضوع وباللغةِ الألمانية. حظيتُ بمجلديْن، الرابع والسادس. بعد أيّام، وصلت نسختان مصوّرتان. وكمن يشارك في سباقِ تتابع، انطلقتُ على الفور.
لم يكن لديّ تصوّر مسبق عن المادّة. كلُّ ما توفّر لديّ في ذلك الوقت لم يتعدَّ استعداداً للمشاركة في العمل، نوعاً من التحدّي. وفي تشخيصٍ فوري من خلال نظرةٍ خاطفة، اتضحت الصورة التالية لديّ: أولاً، اللغة المستخدمة ليست التي اعتدتُ على التعاطي معها، على الرغم من أنّني، وبكلِّ تواضع، لم أقصُر مطالعاتي على مواضيع محدّدة. ثانياً، كلُّ جملةٍ أو فقرة تكاد تشبه جبل الجليد الذي لا يظهر منه سوى القمّة. ثالثاً، المعلومات المدفونة عابرة للعصور، ولا يمكن تركها من دون نبش. رابعاً، الجهد الكبير المبذول في كتابةِ لغةٍ بحروفِ لغةٍ أخرى. خامساً، وفرة الاقتباسات وبلغاتٍ متعدّدة.
ليس سرّاً أنّ ردّ فعلي الأوّلي كان نوعاً من ارتيابٍ ساورني في قدرتي على القيام بالترجمة. مرّة أخرى: لقد اعتدتُ على لغةٍ غير هذه اللغة. كنت أعزّي نفسي أنّ خبراء في المادّة لا بدَّ أن يراجعوها، وأنّ عملاً موسوعياً بهذا المستوى لا بدَّ أن المشاركين فيه سيجدون قاسماً مشتركاً بينهم.
لم يكن غوستاف دالمان يبحث عن سبلٍ سهلة، بل اختار طرقاً وعرةً ربّما كانت السبب وراء صنع هُويّة جديدة مركّبة
انطلقتُ بخطواتٍ بطيئةٍ كمن يتحرّك في حقلِ ألغام. اعتدتُ ألّا أستخدم الحاسوب مباشرة. تعوّدتُ، في وقتٍ مبكّرٍ من حياتي، على استخدام أقلام حبر سائلة ذات ريشة عريضة. ربما شكّلت هذه، وصفحات ناصعة البياض، طقس الكتابة أو الترجمة الوحيد. أشكّ أنّني من دونها كنتُ سأنجز العمل.
من جهةٍ، وجدتُ متعةً لا تقدّر بثمن، حين كنتُ أكتبُ بحروفٍ عربيةٍ ما كتبه المؤلف من أهازيج وأمثال عربية بحروفٍ لاتينية. حفظتُ عن ظهر قلب متى تأتي الهمزة والألف المقصورة والممدودة والحاء والهاء والخاء والسين والصاد والضاد والدال والذال... إلخ. ومن جهةٍ أخرى، كانت هناك الأزمنة القديمة التي تتطلّبُ إلماماً بالعهد القديم خاصة. كانت الأسفار مكتوبةً بحروفٍ مختصرة. حاولتُ الالتفاف عليها، حتى لا أتوقف طويلاً عندها. اعتقدتُ أنّ عليّ الاستعانة بمن درس اللاهوت، لكن "البشارة" أتت من "منسّق المشروع" نفسه: لا داعي لترجمة الأزمنة القديمة. حتى الآن، لا أعرف على أيّ أساسٍ قرّر ذلك، خصوصاً أنّه كان عليّ ترجمتها لاحقاً.
لم يتوقّف الأمر عند المجلّديْن المذكوريْن، بل بات منسّق المشروع يُفاتحني تباعاً بموضوع مجلداتٍ أخرى لم يعمل من وكّلهم بها عليها، على الرغم من مرورِ وقتٍ طويل. وفي كلّ مرّة كان جوابي "بتمون" يعكس ضمناً المتعة الحقيقية التي بتُّ أشعر بها في الترجمة، بعد أن تولّد لديّ إحساسٌ فطريٌّ أنّي بتُّ "قريباً" من المؤلف، فضلاً عن رغبةٍ في التعرّف إلى الثقافة والمعلومات الغزيرة التي كدّسها. أحياناً، كنتُ أتوقّف فجأةً خلال الترجمة، وقد انتابتْني حالة من الدهشة أمام كلّ هذا المجهود الذي بذله المؤلف. الآن فقط يمكنني القول إنّ جهدَ المؤلف على مدى عقود قد يكون السبب الرئيس أمام إنجازي، مترجماً ومراجعاً، هذا العمل. ربما أردتُ لاشعورياً محاكاته.
لا شكّ أنَّ لديّ الآن أنّه لم يكن يبحث عن سبلٍ سهلة، بل اختار طرقاً وعرةً ربّما كانت السبب وراء صنع هُويّة جديدة مركّبة تشكّلت لديّ في أثناء العمل. فقد وضعني وجهاً لوجه قبالة عصور وأزمنة كنت أجهلها، شكّلت فيها كلمات بالفلسطينية – المسيحية والسريانية والآشورية والآرامية والعبرية والعربية والتركية واليونانية علاماتٍ على الطريق. كما وفّر لي الفرصة لأن أتعمّق أكثر في اللغتين العربية والألمانية.
أحسستُ خلال الترجمة أنّي بصدد عاشقٍ لفلسطين، قبل أن يكون هناك "عاشق من فلسطين"
ولم تغب العاطفة عن الموضوع. فقد أحسستُ خلال الترجمة أنّي بصدد عاشقٍ لفلسطين، قبل أن يكون هناك "عاشق من فلسطين". إنّه رجلٌ اعتاد أن يذكّرني بقول نزار قباني أنّ العرب دخلوا إسبانيا عشّاقاً وليسوا فاتحين. في ذهني انطبعت صورة عاشقٍ متواضع.
ولم تكد تنتهي رحلتي مع دالمان، حتى بدأتْ رحلةٌ أخرى لم يكن قد خُطّط لها أصلاً، رحلتي مع صقر أبو فخر، أكاد أجزم أنّها كانت أصعب من رحلتي مع دالمان. فعوضاً عن ملاحقتي من طاقم "تسقيط الأخطاء"، كان عليّ أن أكون تارّة أستاذاً للغات السامية أو من كهنة العهد القديم، وطوْراً تلميذاً في اللغة العربية: فكم من مرّة أعادني أبو فخر إلى النصّ الأصلي للتأكّد من سريانية كلمةٍ أو آشوريّتها؟!
كم من مرّة ردّني على أعقابي، حتى بعد أن أتقنتُ كتابة لغةٍ بحروف لغةٍ أخرى؟ فإذا بعبد الوالي يصبح عبد الولي وقريعة سيدي تصبح صلعة جدّي، وسي رايد يصبح خليل رعد أول مصوّر فلسطيني، ورهبني عاد رحباني والمستعمرة العربية تصبح الطالبية (حي بناه أثرياء فلسطينيون غرب القدس) ورأس الزيامبة يبقى حقيقة قائمة حتى اليوم في القدس!
حتى الأرقام لم تسلم من أبو فخر: لماذا 734 متراً تساوي 27 متراً مربّعاً؟ وأخيراً، وليس آخراً ماذا نعمل بـ "زمقنا"؟ إذ لم يحسم الخلاف حول "زميقنا" حتى بعد صدور الموسوعة. هل هو الـ "زميق" وتعني "حليق اللحية"، كما وردت في معاجم اللغة، أم أنّ "زمقنا" ليس سوى أحد نزلاء مصح المجذومين في القدس سليل عائلة من لفتا المحاذية للقدس؟ ثم كانت هناك الكلمات اليونانية: أين هي بحروفها اليونانية؟
ذات خميس في مارس/ آذار، وفي ظلِّ جوٍّ عاصف، وعلى طريق المعرجات الذي يمتدّ على مسافة 40 كيلومتراً رابطاً أريحا برام الله، حين كانت درجة الحرارة تنخفض تباعاً حتى بلغ الفرق 15 درجة مئوية عند وصولي إلى رام الله في ساعات ما بعد الظهر، من أجل تحميل الحروف اليونانية على مفتاح حاسوبي.
بانفعالٍ ولهفةٍ، كتبتُ لأبو فخر عن مغامرتي، وكيف انتقلتُ على عجلٍ من أريحا، حيث الجو الدافئ، إلى رام الله، حيث البرد القارس (كنت قد كتبتُها بالصاد). لم يخف الأستاذ تعاطفه، ولكن أيضاً خيبة أمله من ذلك الذي استبدل السين بالصاد. خمس عشرة درجة مئوية لم تشفع لي عنده، رغم أنّ البرد يقرصُ قرصاً مثل يقرس كما يفيدنا اللغويون.
عادةً ما يأتي الفعل في الألمانية متأخّراً. وعن ذلك لا يمكنني الاعتذار. ولكن عليّ الاعتذار أنّ فعل الشكر عندي بالعربية قد أتى متأخّراً بعض الشيء. فعلى الرغم من تعقيداتٍ إدارية، ربّما نتيجة طول الفترة، وتبدّل القائمين على وحدة ترجمان، لعبت مديرة الوحدة لورا صيّاح، دوراً منظّماً وضابطاً. أما مديرة التحرير، تريز سركيس، فقد زيّنت بملاحظاتها الصارمة العمل كي يخرج بالشكل الأنيق الذي فاجأني عندما رأيت المجلّدات تصطفّ في صندوقها بمؤسّسة عبد المحسن القطّان في رام الله أوّل مرّة.