- يُظهر كنفاني كيف سبقت الرواية السياسة في ترسيخ الفكرة الصهيونية، مستشهدًا برواية "دانييل ديروندا" لجورج إليوت التي قدمت الشخصية الصهيونية قبل تبلورها سياسيًا.
- يناقش الكتاب تأثير الأدب في دعم الفكرة الصهيونية وتأصيلها، معتبرًا أن الأدب الخالي من الضمير ساهم في تزوير التاريخ ودعم فكرة إقامة "إسرائيل" على أساس تزييف الحقائق.
في كتابه عن الأدب الصهيوني، يقدّم غسان كنفاني رؤية جديدة تشرح كيف يمكن للرواية أن تشارك بقوّة في تغيير الوعي، وتبديل موقف الأفراد والجماعات من التاريخ، أي أنَّ الرواية تشتغل في ميدان آخر، يختلف تماماً عن الميدان الذي يُشيد اليوم بالقراءة، ودور القارئ، غير ذلك من نظريات تضع القراءة مواجهاً لرسالة الرواية، أو فكرتها.
ما قدّمه التاريخ لنا حتّى اليوم، كان يشير فقط إلى أنشطة الحركة الصهيونية في المجال السياسي. أي في تحرّكِ الأفراد الذين تبنّوا الأيديولوجية الصهيونية لتثبيت الفكرة التي أوجدوها، وعملوا على نشرها، وهي أن اليهود شعب، وليسوا ديناً فقط، وأن عليهم إقامة دولتهم، وقد اختيرت فلسطين منذ البداية أرضاً موعودةً لهم.
ما يوضّحه كتاب كنفاني هو أنَّ الفكرة تبلورت أيضاً في الأدب، وأنّ الأدب الإنكليزي كان هو موطن ترسيخ الفكرة ونشرها، بحيث يمكن القول إن مسار الأدب في هذا الحقل قد حقّق ما يمكن تسميته: أثر الأدب في المجتمع، أو أثر الرواية في تغيير الأفكار. وهو أمر غير ملحوظٍ غالباً في دراسة الأدب، لصعوبة الحصول على إحصائيات أو معاينات تُثبت أنَّ شخصاً ما في أيّ مكانٍ غيّر رأيه، وموقفه، ومسار حياته، تجاه مسألة ما، بفضل رواية.
سبقت الروايةُ السياسة في اختراع الشخصية الصهيونية
واللافت في الأمر أن تكون الرواية قد سبقت السياسة في تثبيت فكرة الانفصال بين اليهودي والمجتمع، أي في إيجاد ما سمّاه هاني الراهب الشخصية الصهيونية في كتابه "الشخصية الصهيونية في الأدب الإنكليزي". حيث قدّمت الروائية الإنكليزيّة جورج إليوت، كما يقول كنفاني، في روايتها "دانييل ديروندا" قاعدة عملٍ صهيونيّة حين جعلت أبطالها يؤمنون بضرورة التصميم والعمل على المساهمة في صنع "مستقبل العالَم ومستقبل اليهود" و"الاتجاه إلى فلسطين".
وهذه هي الإشارة الأكثر خطراً في تاريخ العلاقة بين الرواية والقارئ، فالمشروع الاستيطاني الصهيوني كان قد بدأ في المخيّلة الأدبية قبل أن يتحوّل إلى نظرية وأيديولوجيا، صاغها مؤسِّسو الصهيونية بعد صدور هذه الرواية بأكثر من ثلاثين عاما. لكن العمل الدعائي لا يصنع أدباً، فرواية جورج إليوت هذه، لا تتقدّم إلى المجال الروائي كفنٍ، بل إنَّ هنري جيمس وصف الفصل الخاص بميول الشخصية الصهيونية بأنّه يسقط إلى قعر البرود، وإنّه فاشل فنيّاً.
تزوير للتاريخ يدعمه الأدب الخالي من الضمير
سوى أنَّ تأثير الرواية في الأوساط الصهيونية كان قوياً، لا يحفل القارئ المسيّس بالفن. الأمر يتكرّر في التاريخ كثيراً فالرسالة السياسية، أو تقديم الفكرة، وخاصّة إذا كُتبت من قبل كاتب مُقتدر، تستطيع تجاوز الفن، والعمل في الأوساط الملائمة لها، إذ إنَّ الخطاب كان موجّهاً بالدرجة الأولى إلى اليهود، لتأصيل شخصية الصهيوني، خاصّة أن كثيراً منهم كان يقاوم الفكرة.
الطريف أن نشهد في بداية القرن الواحد والعشرين يهوداً ينكرون ذلك التاريخ. يمكن لكتاب المؤرخ شلومو ساند "اختراع الشعب اليهودي" أن يكون علامة تضع الحقيقة من جديد في موقعها الطبيعي، أي حقيقة أنَّ الدين لا يشكّل قومية، وأنَّ وجود "إسرائيل" نفسه مبنيُّ على تزوير للتاريخ، يدعمه الأدب الخالي من الضمير.
* روائي من سورية