تحضر في المجتمعات الشمولية فكرة فصامية مفادها أنّ الثقافة فعلٌ من غير طائل. لكن في الوقت نفسهِ تعمل الأنظمة الشمولية على فرض ثقافتها ومحاربة أو إقصاء من يغرّد خارج السرب الذي يكرس فكرةَ ألّا جدوى من الثقافة.
تعمل الأنظمة الشمولية على محاربة نوعٍ من الثقافة، باستخدامِ نوعٍ آخر منها. على هذا المنوال، تصنع معارضةً تنوب عن المعارضة الحقيقية، بذلك يجد من يخضع إلى تلك الأنظمة ألّا حاجة إلى أن يُعارِض؛ فهناكَ من يُعارض عنهُ، وألّا حاجة إلى اكتساب ثقافة مختلفة، لأنّ هناك من يقدّمها أمامه ونيابة عنه. ما يسوّغ تسويق الإعلام التابع للأنظمة وجوهاً معروفة الولاء على أنّها وجوه لها آراء مغايرة.
بذلك يصبحُ الحديث عن الغلاء والفساد حديثاً مطرباً لدى جمهور هذه الأنظمة، فهم يسمعون صوتاً معترضاً على الوضع المعيشي أو على الجوع وانتشار الجريمة. لكنّ هذه الأسئلة التي تدور تحت سقف واطئ، إنّما تُغيّب أسئلةً أكثر عمقاً وأشدّ خطراً، أسئلةً تقع في لبّ السياسة وأدوات السيطرة والتحكم.
لكن مهلاً: هل يمكن بهذه السهولة معرفة الفارق بينَ ثقافة ينتجها النظام، وبين ثقافةٍ تثور عليه؟ لا شكّ بأنّ المسألة أكثر تعقيداً ممّا تبدو، إذ تبدأ مقارعة النظام الشمولي بفهم طبيعتهِ، وهي طبيعة متراكبة تنطوي على الأمر ونقيضهِ معاً. ما يعزّز لدى شرائح اجتماعية كبيرة ثقافة المقاطعة، أو الاعتكاف، أو البقاء في الهامش. لأنّ معارضة نظام شمولي بالغ التعقيد وعميق الأثر معارضة قد تصبّ في صالحهِ، ما لم يعِ حامل ثقافة التحرّر موقعه في الألعاب التي يخوضها النظام الشمولي ويمارسها باستمرار.
القول بأن كاتباً ما يؤلّف أعماله للمستقبل ينطوي على إقرارٍ بالعجز
يفسّر هذا الميل إلى التحرّر مع إدراك عقم الفعل السياسي في ظلّ أنظمة تغوّلت حتى على المعارضة، لجوءَ الكتّاب والفنّانين إلى أعمالهم، لجوءاً يبدو هروباً من المواجهة إلى عالم أكثر حقيقيةً وفاعليّة بالنسبة إليهم، وفي ذلك استبدالٌ مؤسفٌ للواقع بالخيال، لكنّه استبدالٌ قسري. نرى الحياة جميلةً في الكتب والحريّة قريبة في الروايات، ذلك لأنّ الكتب في ظل الأنظمة الشمولية، صارت مجال النظرية في انتظار تغيّرٍ ما، قد يحملهُ المستقبل.
ونفهم من خلال ذلك كيف أنّ الثقافة التحرّرية تحيّدُ نفسها عن ثقافة النظام الشمولي، فنجد الكتّاب إمّا يغادرون أوطانهم، وهنا يفقدون البعد الاجتماعي لحضورهم الثقافي، أو يبقون في أوطانهم وينشرون كتبهم في الخارج، وفي هذا أيضاً يفقدون الحضور الاجتماعي للكتاب. إذن، في كلتا الحالتين، نجد الثقافة في وضعٍ حرج، لا يمكن لها أن تتبدّى عن فعلٍ خارج ما يريدهُ النظام الشمولي وما يفرضه سوى بأن تعزل نفسها.
يبقى الرهان ــ الذي يزرعه المثقّفون في السرديات التي تمثّل شعوبهم ــ على التاريخ، الذي يكون هنا مستقبلاً. ما يفسّر رأياً شاع في البلدان التي نكصت فيها الثورات، بأنّ كاتباً ما يكتب للتاريخ. أي إنّه يرمي روايتهُ إلى المستقبل، وفي هذا إقرارٌ عاجز بأنّنا كنّا نعيش هذه الأزمنة، ولم نستطع فعل شيء، لأنّ النظام دفعنا إلى أن نقصي أنفسنا بأنفسنا عن المشهد.
ثمّةَ من يشكّك بأهمية حضور الكتاب والكاتب والقرّاء في مكان الحدث نفسهُ، لا سيّما بوجود القراءة الإلكترونية. لكنّ غياب أحد هذه العناصر، هو غياب تفرضه الرقابة. وأبعد من ذلك، هذا النوع من الغياب يحمل معه غياب النموذج المختلف عن النموذج السائد الذي يسوّقه إعلام النظام الشمولي.
وفي ندرة النموذج المختلف، يُترَك القارئ فريسة للرداءة ولتسويق الأحزاب رموزاً بعينها، ومحاربةِ آخرين. لا عبر القتل، وإنّما بألّا يتركوا لهم إلّا الهامش المنسيّ ــ كي يتحرّكوا فيهِ ــ وولاءهم للتاريخ، الذي ينوبُ هنا عن المستقبل، فالحاضر غائب...
* كاتب من سورية