إنسان ما بعد غزّة

05 نوفمبر 2023
منظر جوي لمبان دمّرتها الغارات الإسرائيلية في مخيم جباليا بغزة (Getty)
+ الخط -

لا يمكن للإنسان الواعي بمحيطه أن يعود كما كان بعد الحرب على غزّة ومجموع سكّانها؛ فإنسان ما بعد غزّة ليس هو نفسه إنسان ما قبلَ غزّة إذا أراد أن يكون بالفعل ذا ضمير حي وفهم حقيقي للتاريخ والذهنية الإمبراطورية، أي: ذو فهم لكامل وجوده التاريخي في الزمن الراهن.

لستُ معنيّاً بإدانة "الفكر الغربي"، فأنا لا أعتقد بوجود شيء كهذا، إلّا إذا كنّا نعني فكر الطبقة الحاكمة، أو فكر طبقات اجتماعية معيّنة، زوّدت المؤسَّسات الإمبراطورية الحديثة بمنظّريها وإداريّيها ورعاة سياساتها. والغرب، حقيقة محيط تتلاطم فيه تيّارات وأمواج لا مجال لحصرها أو جمعها في بوتقة واحدة مهما حاولنا. ولكنّني معني بالإشارة إلى ضرورة فهم الحضارة المُعاصرة، وربما أي حضارة ممكنة ضمن المدى المنظور.

ما يحدث في غزّة ربما يكون من الإبادات القليلة التي عرفها التاريخ الحديث، والتي تُنقَل على الهواء مباشرة من دون أن يتحرّك أحد، ولو لكي يرفع عن نفسه العتب، للاعتراض "الفاعل" على ما يحدث. وقد تكون الإبادة الوحيدة لمجتمع، بوصفه مجموعة من البنى والعناصر المادية والبشرية، وإمكانيات النهوض والنموّ، التي تحدث مع وجود ملايين من البشر العاديّين ممّن يبرّرون حدوثها، بمن في ذلك بعض العرب. وهو تبرير يحصل ضمن الزمن الحقيقي، وليس بعد القراءة عن الإبادة في كتب التاريخ بعد قرون، أي بعد أن تكون التفاصيل وصيرورة الأحداث قد نالها ما نالها من الالتباس والشُّبهة.

بعد غزّة لا يمكن ادّعاء عدم معرفة كيف تفكّر "الحضارة"

إنّها أكثر أمثلة الفكرة "الحضارية" حول التضحية بشيء ما أو أحد ما من أجل "صالح عام" افتراضي وقاحة، هذه المرّة صالح "الحضارة" في مواجهة "الهمجية"! وهي المثال الأنصع على الهندسة الاجتماعية التي يجري فرضها في زمان ما ومكان ما وعقليتها الباردة و"تفكيرها البعيد" حول مصلحة استراتيجية طويلة الأمد.

غزّة هي تجسيد بأبعاد ضخمة لموقف الحضارة الإمبراطورية ممّن يقول "لا". إنّها الحضارة التي يفهمها بعض مفكّري العصور الحديثة، ومنهم الفيلسوف الوجودي الروسي نيكولاي برديايف، على أنها ثقافة فقدت عمقها وأصالتها فعوّضته بالاتساع والتوسّع، وفقدت إنسان الحاضر فأرادت أن تعوّضه بفكرة غائمة غامضة ومجرّدة عن إنسان المستقبل؛ ذلك الإنسان الذي لا يأتي (ولن يأتي على كل حال) إلّا على جثّة إنسان الحاضر.

بعد غزّة لا يمكن للإنسان أن يدّعي أنّه لا يعرف كيف تفكّر "الحضارة" و"الطبقة الحضارية". ليس الأمر بعد الآن اختلافاً في أحداث ماضية لم نشهدها، كما أنّه ليس حرباً تؤدّي ككلّ الحروب إلى ضحايا مدنيّين هنا وهناك، بل إنّنا أمام عملية يعلم جميع العالم، صراحة، أنّها ستؤدّي إلى موت عشرات الآلاف، ومع ذلك يتّفقون على "ضرورتها" ويتوافقون، مثلاً، على تقبّل فكرة (أو حتى مشروعية) إبادة حي كامل في حال الاشتباه بوجود شخص واحد مطلوب فيه. لا أقول إنّ ما يحصل في غزّة جديد، ولا أزعم أنّ جميع الموافقين على المجزرة ينطلقون كأصحاب الفكر الصهيوني (اليهودي والمسيحي) من منطلق عرقي أو ديني (فبينهم عرب ومسلمون)؛ ففكرة إبادة أنماط الحياة المختلفة كلّياً، أو التي يرى "المتحضّرون" أنّها خطيرة على نمط حياتهم، وُجِدت منذ زمن طويل، وطُبِّقَت بحِرَفية بالغة وأشكال مختلفة في أوروبا نفسها إبّان الثورة الصناعية وفي فترات أُخرى. هنا تكمن خطورة الأمر كلّه: حين تصل ثقافة جماعة ما أو طبقة معيّنة أو أمّة من الأمم إلى مرتبة التغوّل الحضاري الإمبراطوري، كيف يمكن منعها من التحوّل إلى قوّة ساحقة ترى في الإبادة طبيعة من طبائع التاريخ وحتميّة من حتمياته؟

إنسان ما بعد غزّة، مثل الأوروبي في فترة ما بعد الحرب الثانية، لا يمكن له أبداً أن يتجاوز هذا السؤال، ولا يمكن له بعد الآن إلّا أن يطرح الكثير من الأسئلة الوجودية والتاريخية والدينية على نفسه وعلى جماعته ومجتمعه: لماذا سكتُّم على هذه الكبيرة بعد أن كنتم لا تسكتون على أصغر منها؟ أين كانت أصواتكم وأفعالكم؟ ماذا يعني أن أكون جزءاً من هذه الجماعة أو هذا المجتمع، أحمل اسمها أو اسمه، في أوقات الملمّات والكوارث؟


* شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد

موقف
التحديثات الحية
المساهمون