إلّا لو خالطها دمٌ أبيض

30 مارس 2024
فتاة تمسك بطائرة شراعية عليها علم فلسطين، خانيونس، 28 آذار/ مارس 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- جيمس ماكبرايد يشارك في "لون الماء" تجربته مع الهوية والعرق، مستكشفًا حيرته حول لون بشرة أمه البيضاء والتساؤل عن لون الله، ما يؤدي إلى دروس في الروحانية والإنسانية المشتركة.
- يبرز التناقض بين تجارب ماكبرايد وحياة أمه اليهودية البيضاء، مؤكدًا على أن تعدد الهويات يمكن أن يكون مصدر قوة، على الرغم من التحديات العرقية والتمييز.
- النص ينتقد كيفية تعامل المجتمع مع العنصرية والتمييز، مشيرًا إلى تجاهل معاناة الأقليات وتقليل شأنها، ما يعكس التحيزات العرقية والنظام العالمي القائم على اللون.

ينقل لنا الكاتب والموسيقي الأميركي جيمس ماكبرايد في سيرته الذاتية "لون الماء" حيرة الطفل الذي كان عليه وهو يتأمّل بشرته السوداء وبشرة أُمّه البيضاء. كانا عائدين من الكنيسة حين قلّب السؤال في رأسه عن لون الله، أأبيض هو أم أسود؟ حاولت الأمُّ نسف السؤال بمضاعفة الغموض، وقالت له إنَّ الله ليس أيّاً منهما، بل هو روحٌ. ولكنّ عناد الطفل لا يهدأ بالغموض، إذ ما شأن الروح بهرمية المكانة والمال المرتبطين باللون. وهل تكون تلك الروح عادلة أم تراها تميل إلى الأبيض أيضاً؟ تُنهي الأم إجابتها باستعارة شعرية فتقول إنَّ تلك الروح ليست منحازة، إذ لا لون لها؛ لونها لون الماء.

تتناوب فصول السيرة الذاتية بين حياة الطفل الأسود وحياة أمّه اليهودية البيضاء، وسيشبّ الطفل ليقتنع بالشعر وبإجابة الأمّ، فيبوح بامتنانه لأنّه وُلِد من عالمين مختلفين متناقضين. ولكنّ الواقع عنيد كعناد الطفل اللجوج ذاك الذي كان يتمنّى لو كان الناس كلّهم لوناً واحداً، وإن كان يميل حتماً إلى لونه هو، أن يكون مثل أشقائه وأصدقائه الذين غرسوا فيه كبرياء اللون الأسود، حيث لا امتيازات متوارثة مُسلَّم بها، بل هي ما تُعايشه، وتُقاسيه، كي تُكوِّن هويتك وحياتك. وكأن ماكبرايد يُضمر هنا بما لا يودّ التصريح به: تلك الروح بيضاء لا سوداء، بصرف النظر عن الأحلام والأمنيات.

يلفتنا هنا أن الترفّع عن الاختلافات لا يكون من نصيب صاحب الامتيازات، بل من واجب الضحايا المضطهدين وحدهم. فنبذ العنصرية لا بد أن يكون واجب السود لا البِيض، ونبذ الحقد واجب الضحايا لا الجلّادين، واعتناق القناعة واجب المحكومين لا الحكّام، والتغنّي بالسلام واجب الضحايا لا الاحتلال. هو الواجب الذي لا يستحق احتفاء، فالاحتفاء لأصحاب الامتيازات الذين سنبجّل تضحياتهم حين يرتضون التخلّي عن جزء من "حقهم". وكذا هو الدم.

"الترفّع عن الاختلافات" من واجب الضحايا المضطهدين وحدهم

ثلاثون أو أربعون ألف شهيد محض أرقام حين يكونون سوداً أو سُمراً أو صُفراً، ولكن يكفينا قتيلٌ أبيض واحد كي نقلب المعادلة برمّتها، بصرف النظر عن ماضي هذا القتيل. وكأن القضايا لا معنى لها إلّا لو خالطها دم أبيض. دُمِّرت غزّة كلّها، وشُرّد أهلها، وقُتل من قُتل، وتيتّم من تيتّم، وغرق سكّانها في جحيم التجويع، ولم يحظوا بمكان إلا في حاشية سريعة، بينما أُفرِد المتن لجندي أميركي تحوّل فوراً إلى شهيد، في حين بخلت اللغة بتلك المفردة على آلاف الفلسطينيّين. هو البطل وهم كومبارس، هو المناضل وهم بيادق، هو أخونا في الإنسانية وهم متاع نافل في القافلة، هو صاحب الاسم وهم أرقام.

تناسى فقهاؤنا حرمة الانتحار التي رجموا بها البوعزيزي، وتناسى أهلُنا بزّة الجندي الذي لا يختلف أقرانه عن الإسرائيليين في شيء، فالدم الأبيض، كالثورة، يجبُّ ما قبله. ومن نحن كي نحكم على البطل سليل الأبطال الذي منح الفلسطينيين شرف أن تختلط دماؤهم السمراء بدم نقي أبيض. تسابق المثقّفون على رثاء الشهيد، وعلى تدبيج المعلّقات، وعلى كتابة أحلام اليوم التالي الذي سيعقب الحرب كي تنعم أعيننا برؤية تمثال الجندي الأميركي لينير أطلال غزّة. هي غزّة ذاتها التي تسابقوا هم أنفسهم في تصنيف أهلها، وفي تحديد من يستحقّ الرثاء منهم؛ هي غزّة ذاتها التي حُرم أبناؤها من تأشيرات السفر، ومن حرّية الدخول إلى البلاد التي تنفر من الفلسطينيّين، فهم مثيرو شغب وقلاقل. هُم مثقّفونا أنفسهم الذين غفلوا عن طرح التساؤل المرعب: ماذا لو كان الجندي إسرائيلياً؟
   
* كاتب ومترجم من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون