إدفارد مونش: في تلازُم الحياة والحُبّ والموت

27 سبتمبر 2022
"رقصة الحياة"، 1900 (من المعرض)
+ الخط -

من بين اللوحات الأكثر شهرةً في تاريخ الفن التشكيلي، يمكن لهاوٍ أن يتباهى بمعرفته وبقدرته على تِعداد أعمال مثل "الجيوكوندا" أو "موناليزا" لـ ليوناردو دي فينشي، و"غرنيكا" لـ بابلو بيكاسو، و"ليلة مرصّعة بالنجوم" لـ فينسنت فان غوخ، على سبيل المثال لا الحصر. لكنْ على شهرتها، وعلى إسهامها في جعل بعض الفنانين أسماء مألوفة لدى عموم الناس، إلّا أن هذه اللوحات الشهيرة تلعب، في الوقت نفسه، دوراً معاكساً، حيث تتحوّل إلى شاشة عملاقة تحجب عن الأنظار بقية تجربة الفنان.

ينطبق هذا الكلام على لوحة "الصرخة" لـ إدفارد مونش، أكثر لوحاته شهرةً، والتي بات الفنان النرويجي (1863 ــ 1944) يُختصَر بها، رغم ما في في تجربته من غناء وتنوّع.

في معرضه "إدفارد مونش: قصيدةُ حياةٍ وحُبٍّ وموت"، الذي افتُتح في العشرين من هذا الشهر ويستمر حتى الثاني والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2023، يحاول "متحف أورسيه" في باريس الذهاب أبعد من "صرخة" مونش هذه، وذلك في مسعىً لإعادة الاعتبار إلى التنوّع الذي تقوم عليه تجربته، من خلال عرض نحو مئةٍ من أعماله.

أوّلُ ما يفعله المتحف في هذا المسعى هو الكشف عن سِعة استخدامات مونش التقنية، حيث تتنوّع الأعمال المعروضة بين تصوير زيتي وطباعة حَجَرية (ليثوغرافيا) ورسم بالحبر والفحم، حتى أن الفنان كثيراً ما اشتغل شهوراً، وربما سنوات، في التنويع على المشهد نفسه، كما هو الحال، مثلاً، مع "الصرخة" التي هي في الواقع خمس لوحاتٍ تستعيد اللحظة نفسها، رسمها الفنان بتقنيات مختلفة بين عامَيْ 1893 و1917. 

يبيّن المعرض تأثُّر مونش بالفلسفات الحيوية لدى نيتشه وبيرغسون

وغير بعيد عن هذا التنوّع في الأساليب والخامات، يكشف المعرض عن سِعة مشاغل مونش، وهو الذي تُربط اشتغالاته الفنّية بشكل شبه حصريّ بأسئلة الموت والمرض والقلق وغيرها من القضايا الوجودية. صحيحٌ أن الأجواء السوداوية، والوجوه الباردة، بأعينها المشدوهة وتقاسيمها الجزعة، تخيّم على قسم من صالات المعرض، إلّا أن هذه الأجواء تُفسح مجالاً، بالضرورة، لمشاهد أكثر بهجة، كلوحات تصوّر رقصات في حفل زفاف، أو قُبلاً بين عشّاق، إضافة إلى لوحات لمشاهد طبيعية يغيب فيها الحضور البشري وتضعنا أمام شموس ساطعة، أو شواطئ، أو مروج، وكلّها مرسومٌ بأزرق لا ينتهي.

وتأتي الضرورة في تراصُف المقلِق مع البهيج، والموت مع الحياة والحُبّ، من نظرة الفنان إلى الوجود بوصفه تمرحلاً، أو دورةً دائمة تتشابك فيها كلّ هذه العناصر، بحسب المنظّمين. وهُنا، يكشف المعرض عن تأثّر مونش البعيد بالفلسفات الحيوية كما تمظهرت لدى فريديريش نيتشه وهنري بيرغسون، وهو تأثُّرٌ يشرح تأكيده، أكثر من مرّة، على أن رسْمه للحظات الحزن والموت والمرض لا يعني تشاؤماً أو سوداويةً بالضرورة، بل تسجيلاً لتطوّر الحياة نفسها، منبّهاً بضرورة النظر بشكل شامل إلى هذه الثيمات، ووضعها إلى جانب تناوُله لمسائل الولادة والحُب، لفهم أعماله على أفضل وجه.

المساهمون