إحسان عبّاس.. استعادة فلسطين والاغتراب عنها

26 نوفمبر 2023
إحسان عباس (1920 - 2003)
+ الخط -

يعود إحسان عبّاس الذي يمرّ عشرون عاماً على رحيله، في كتابه "غربة الراعي: سيرة ذاتية"، إلى حيفا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، مُدوِّناً: "وربّما كان من المُفيد الإشارة إلى أنّ والدي غامر بافتتاح دكّان في حيفا لمدّة ستّة أشهر فقط، وفّرت لي فرصة ذهبيّة للجلوس في الدكّان وتأمّل الأمواج البشريّة التي كانت تكتظّ بها حيفا، ولطالما شدّتني رؤية بعض النماذج مثل الصوفيّ الأنيق أو العجوز التي لم تكن تتوقّف عن ترداد 'استقلّت القدس'، ثمّ تروح تُردّد أغاني الشاعر الشعبي نوح إبراهيم مثل: دبّرها يا مستر دِلْ/ يمكن على يدّك بتحلّ".

يستّهل الناقد والمحقّق والمترجم الفلسطيني (1920 – 2003) سيرته بوصف طفولته في قرية عين غزال المهجّرة، التي تقع على أحد امتدادات جبل الكرمل، وواقع الحياة الاجتماعية في الريف الفلسطيني والأزمات التي واجهته إبّان الاستعمار البريطاني، وكذلك أحوال التعليم حيث كانت المدارس تنتشر في بعض القرى ومنها قريته، التي تعلّم فيها القراءة والكتابة والقرآن الكريم ومبادئ الحساب.

تحتلّ الأعوام الستّة والعشرين التي عاشها عبّاس في فلسطين، قبل احتلالها على يد العصابات الصهيونية عام 1948، حوالي ثلثي صفحات الكتاب، حيث يكتب "وكانت المدارس تعطّل بمناسبة اليوم الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) في ذكرى وعد بلفور، فكنّا ننظّم المظاهرات ونسير في الشوارع مردّدين الهتافات (سيف الدين الحاج أمين)، وفي إحدى هذه المظاهرات، يمّمنا صوب منزل رشيد الحاج إبراهيم أحد زعماء حيفا، وهتفنا له، فأطلّ علينا من نافذة منزله، وقال لنا بلهجة شبه بدوية: 'سيروا على ما قدّر الله'".

تضيء سيرته واقع الحياة الاجتماعية في فلسطين والأزمات التي واجهتها إبّان الاستعمار البريطاني

ويتابع: "كنّا نعرف أن أمثال هذه المظاهرات لن تزيل عن أعناقنا نير الانتداب، ولكنها كانت مادة جيّدة للصحافيّين، وكانت يومئذ هي السلاح الوحيد الذي يعرفه الطلّاب والعمّال وسائر قطاعات الشعب.لم نرق إلى درجة إرسال برقيات الاحتجاج لأنَّا لم نكُن نعرف ما هي البرقية، ولا نعرف إلى من نرسلها لو عرفناها".

يتنقّل الكتاب بين عدد من المدن التي تعلّم في مدارسها، إذ شكّلت حيفا الفضاء الأول الذي تَواجَه فيه عبّاس مع المدينة التي شهدت انفتاحاً كبيراً وتنوّعاً في أصول سكّانها ومهنهم وطبقاتهم الاجتماعية، ثم القدس التي أكمل فيها دراسته في "الكلية العربية" وتتركّز ذكرياته آنذاك على الأساتذة البارزين الذين تلقّى العلم على أيديهم من أمثال: أحمد سامح الخالدي وإسحاق موسى الحسيني، ودروس الأدب الإنكليزي والفلسفة والمنطق وغيرها من المعارف الحديث، وكذلك رفاقه الذين التحق بعضهم بالثورة الفلسطينية الكبرى، والنقاشات التي كانوا يتداولها مع آخرين ومنهم إميل توما وجبرا إبراهيم جبرا.

غلاف الكتاب

المحطّة الثالثة كانت صفد حيث عُيّن فيها معلّماً بمدرستها الثانوية لموادّ التاريخ والجغرافيا واللغة العربية، كما يتطرّق إلى انتخابه من قبل الأساتذة في مدرسته لتمثيلهم في اجتماع يعقد في القدس لتأسيس نقابة للمعلّمين في فلسطين، وهناك شاهد معلّمين أرسلتهم "دائرة المعارف البريطانية" (وزارة التعليم) لكي يعملوا على تعطيل إنشاء النقابة، ويتحدّث أيضاً عن نشاط الأحزاب الأيديولوجية الناشئة في تلك الفترة مثل: الإخوان المسلمين والشيوعي والقومي السوري وغيرها من أحزاب لم تجتذبه أفكارُها على غرار الكثير من أصدقائه.

في الثُّلث المتبقّي من الكتاب، يسرد عبّاس غربته في القاهرة التي نال من جامعتها البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في الأدب العربي، وتدريسه في "كلية غوردون" و"جامعة الخرطوم" بالسودان، و"الجامعة الأميركية" في بيروت حتى تقاعده عام 1985، ثم قيامه بعدد من المشاريع البحثية في "الجامعة الأردنية" بعمّان التي عاش فيها حتى رحيله.

في هذه الغربة، ألّف وحقّق عشرات الكتب والدراسات التي تعبّر عن وجهة نظر واحدٍ من المجدّدين في النقد والثقافة العربية عموماً، في مسائل التراث والحداثة، ومنها "تاريخ بلاد الشام في عصر المماليك 648-923 هـ / 1250-1517 م"، و"بحوث في تاريخ بلاد الشام: تاريخ دولة الأنباط"، و"دراسات في الأدب الأندلسي"، و"الحرية والديمقراطية وعروبة مصر"، و"فصول حول الحياة الثقافية والعمرانية في فلسطين"، و"ملامح يونانية في الأدب العربي". بالإضافة إلى ترجمة عدد من المؤلفات مثل: "فن الشعر" لأرسطو، و"فلسفة الحضارة أو المقال في الإنسان" لأرنست كاسيرر، و"موبي ديك" لهيرمان ملفيل، وغيرها.

المساهمون