إحدى وعشرون طلقة

21 مارس 2021
إيتيل عدنان/ لبنان
+ الخط -

العنوان

إِحدى وعشرون طلقة مدفعيّة، هو التَّقليد الفخم الذي أَرْسَتْهُ بَحْرِيّةُ الإمبراطوريّة، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، استعراضًا لصوتها المَهيب أمام سواحل العالم. وقد أخذته عنها، لاحقًا، الكثيرُ من الدُّول، كأعلى تحيّة وأغلى تشريف، لاستقبال هذا الضَّيف الكبير، أو لتخليد تلك الذِّكرى الغالية...
والشِّعر؟
أليس الشِّعر إمبراطورية سرمديَّة من الشُّموس؟
والضَّيف؟
هل من ضيفٍ أكبر من فخامة الشِّعر يحلُّ بيننا مخفورًا بطلائع الرَّبيع؟
أمَّا الذِّكرى، فهي مرور إحدى وعشرين سنة على بداية الاحتفال باليوم العالمي للشِّعر، الذي تَمَّ اعتماده من طرف "اليونيسكو" استجابةً لسَعْيٍ من "بيت الشّعر" في المغرب.
وليس هذا فقط.
فهذه السّنة، سيجري الاحتفال به في تاريخ بلا نظير في التّاريخ:
في اليوم 21 من العام 21 من القرن 21 وللمرَّة 21.
لذلك، "إحدى وعشرون طلقة" كان يجب أن يكون شعارَ الاحتفال بالشِّعر هذا العام، استعراضًا لصمته المُدوِّي.
ولذلك أيضًا، لا بدّ لهذه المناسبة من بريد، وهو مِنّي: 
بعضُ رسائلِ الصَّمت هذه إلى سواحل الصَّخب.


■ ■ ■


(1)

قنّاص الخوف

لكأنَّ العالمَ أعمى.
لكأنَّ الشَّاعرَ عكَّازةُ ضَوْءٍ.

العالم غزيرُ الضَّوء. ولربَّما هو كذلك الآن أكثر من أيِّ وقت قادم. ومع ذلك، فإنَّ الشَّاعر (أقصد الشَّاعر طبعًا) يحمل مِصباحه الصغيرَ، الذي على هيئة قلب، ويجوب الأرجاءَ السَّاطعة وكلُّه يقظة.
 
ديوجين فعل الشيء نفسه في عزِّ الظهيرة، وقد كانت الحقيقة ضالَّته، الحقيقة التي لم يصادفها أبدًا، ليس لأنَّها أسطع من مصباحه، بل لأنَّها تُقيم في مرآة لا أحد يعلم متى تَشَظّت وتناثرت فإذا هي بعدد الأجنحة.
 
ليست الحقيقة ما يهمّ الشّاعر، بل هي الأجنحة. لذلك، كان ينظمها مَثنى مَثنى ثم يُطلقها سربًا فإذا هي قصيدة. ولمَّا كان يحرص على أن تكون الأجنحة لنفس الفصيلة، فإن التَّحليق كان منسجمًا من الرّيش حتى الغناء. 
 
لم يعد الشَّاعر ذيَّاك الشاعر. 
 
فقد جعل يُؤاخي بين الأجنحة قاطِبةً، من جناح البعوضة حتى جناح الرُّخ، في سعيٍ عنيدٍ منه لإعادة تركيب ولو جزء صغير من المرآة، عسى أن يكون الجزء حيث عين الحقيقة، العين المَسْمولة وهي تحدّق بشماتة في ظلام العالم.

لا غرابة، إذن، إن جاءت قصيدته شعثاء مثل كومة من الرّيش. ولا غرابة إِنِ استعارت بعضًا من أصوات الغابة.
 
لكأنَّ الشاعر قنَّاص سديدٌ.
لكأنَّ الخوف طريدتُه المشتهاة.

العالم غزير الضَّوء والشَّاعر لا يزال يحمل مصباحه ويغدق عليه من زيت القلب كيلا يتوقّف وَجيبُ الضوء. تلك طريقته في التوجّس من هذا السُّطوع العظيم. فقد رأى فيما يرى الشّاعر أنَّ العالم سيصاب بسكتة ضوئيَّة مفاجئة ترديه جثةً حالكة. ساعتها سيظهر الوجه الحقيقيُّ للخوف في مرآة الظّلام الكبير. ولا أحد غيره، وبفضل مصباحه النّادر الذي يذرف أجنحة الضّوء، سينعم برؤية الوجه البهيِّ ذاك، الوجه الذي يشبه تمامًا عين الحقيقة. 
 
وديوجين، هل كان يخاف انقطاعًا مفاجئًا للشمس؟


■ ■ ■


(2)

اليد الأُخرى
 
اليد الأُخرى هي يد الشّاعر التي تنتهي بذراع مورقٍ وعشٍّ به بُيوض كثيرة، إنْ فقستِ الواحدة منها بأجنحة فهي دوريٌّ، وإنْ بلا أجنحة فهي سحليّة. وشتّان بين الطّيور والزَّواحف.
    
فلنكتب بأيادٍ تُرفرِف عسى ألّا تخذلنا الأجنحة.


■ ■ ■


(3)

حليب 

ما من كاتب إلّا وبدأ شاعرًا. فالشّعر حليب الكتابة يرضعه من مختلف الحَلَمات مبدعون من مختلف الأحلام، قبل أن يشيحوا عن الأثداء بإغراء من موائد أُخرى.
    
وحده الشّاعِرُ الشّاعِرُ عصيُّ الفِطام. فهو مِصَفّاةٌ لتكرير حليب الشِّعر وتحويله إلى طاقة تضيء أرجاء الرّوح.

فشكرًا للقصائد
لحليبها
يسفحه
الشعراء
فإذا ابتسامة الشّعر ناصعةٌ
وناصعةٌ أمام مرآة الحياة.


■ ■ ■


(4)

إضراب 

قد لا يستيقظ العالَم
باكرًا كعادته
وقد يُصبح مُلقى
دون عِناية
مثل معطفٍ بلا أزرار
ولا أوسمة...
...
لو ليلة واحدة
يُضرب عن الكتابة
كلُّ الشعراء.


■ ■ ■


(5)

تأشيرة

وأنتَ تَعبُرُ
صوبَ العائلةْ
لا تحفلْ
أيّها الشَّاعر
بنباح القافلةْ.


■ ■ ■


(6)

توضيح

النَّثر: أَنْ يتناولُ المرءُ ثمرةً لفوائدها.
الشِّعر: أن يفعل افتتانًا بِزَهرتها.


■ ■ ■


(7)

صَيْرفة

قطعوا يدَ شاعرٍ
فنزفتْ
بحرًا بجزُرٍ وحوريّاتٍ
قطعوا يدَ آخر
فنزفتْ 
مستنقعًا.


■ ■ ■


(8)

مجد

مِمَّ خوفك
يا جلالة الشَّاعر
وأنتَ تملكُ
جيشًا من الحواسّ؟


■ ■ ■


(9)

انتحال

محظوظون هم الشّعراء، لأنّ الحياة غير قابلة للانتحال، وإلَّا كان العديد منهم قد غادرها وهو في ريعان الشّعر: بشِريان مقطوع، أو برِجل مبتورة، أو بطلقة في اليأس... أو بغُصَّة في الرُّوح.


■ ■ ■


(10)

قفَّاز

يدُ الشَّاعر
قُفَّازٌ شفيفٌ
أمَّا يدُه
فهي القصيدة.


■ ■ ■


(11)

محبة

لا أن تُقرأَ
بكثرةٍ
بل أن تُقرأَ
بمحبَّة.


■ ■ ■


(12)

حادِثة شِعر 

لَكَمْ كنتُ في صغري أحتاج إلى أكتاف تحملني لأرى ما يحدث كلّما تحلّق الناس حول شيء أو حدث ما. ولأنّني لم أكبر كما تنبّأت لنفسي ذات يوم بعيد، فإنّ حاجتي للأكتاف تلك قد كبرت بدلًا مِنّي.

القصيدة الآن أكتافٌ عالية، وأنا طفل كبير يُؤرجِح رجليه فوق صدرها، ويتفرَّج على حوادث الشِّعر الرَّائعة وهي تُردي العالم أشدَّ حياة.


■ ■ ■


(13)

البرتقال والقرنبيط
 
لستُ في صًفِّ القرنبيط، لا بسببٍ من شكله أو بسبب لونه والرَّائحة، بل بسبب الأعمال الكاملة للبرتقال.
 
إنّني بالفطرة في صفِّ البرتقال، ولن يملك القرنبيط سبيلًا لاستقطابي، فحتى حينما قرأت، قبل سنوات، كتابًا عن الأغذية يُشيد بفضائل القرنبيط، ويُثير الانتباه إلى ثروته المغمورة من الفيتامين "ج" لم أتزحزح قيد أنملة عن الصفِّ ذاك.

قد أسلِّم، على مضض طبعًا، أنَّ المقارنة بين البرتقال والقرنبيط تؤول لصالح هذا الأخير على مستوى الفيتامين "ج " بوصفه مضمونًا، لكنّها ستنتهي، لا محالة، لصالح الأوّل بالنسبة للشَّكل، فالبرتقال سليل عائلة أنيقة جدًّا تشهد لها شجرتها العطرة بذلك.
 
البرتقالة بقميصها البرتقالي أشهى من مجرّد ثمرة، فما إن تجرّدها من ثوبها الوحيد حتى يكون لعابك قد أفصح عن نواياه. أمّا القرنبيط فليس ثمرًا، إنَّه محض زهر كبير، أكبر من اللَّازم.
 
ولئن كان القرنبيط يُمثِّل بامتياز تواضُع الشكل أمام مضمونه، فإنَّ البرتقال لا يني يتفوَّق شكلًا على شكله حتى كأنْ لا شكل محددًّا له: فهو العصير والمربَّى وأقراصُ الدَّواء وهلمَّ زهرًا.
 
تستطيع برتقالة واحدة فقط أن تُفاخر كلّ قرنبيط العالم بالصّورة التّذكارية الخالدة التي التقطها لها الشاعر إيلوار مع الأرض وهي في رُوبِها الأزرق: الأرض زرقاء كبرتقالة.
 
فهل أحتاج، بعد كلِّ ما سبق، أن أعلن تحيُّزي لقصيدة البرتقال ضدّ شِعر القرنبيط؟
 
وهل أكون مازحًا إذا قلت إنّ القصائد ستنتهي إلى أقراص زرقاء، وإنَّ الشِّعر سينعم بمستقبل زاهر فوق رفوف الصيدليّات؟ 


■ ■ ■


(14)

الشّذرة

كالطّلقة تمامًا:
الرَّصاصةُ معنى الزِّناد.


■ ■ ■


(15)

الشّعراء

حفَّارو آبارٍ نحن
الأعماقُ أَعَالينَا
ولنا غيومٌ كريمةٌ
تجهشُ
في
كبد
الأرض.


■ ■ ■


(16)

حاجة

لا تكنْ في حاجةٍ
كُنِ الحاجةَ
أيُّها الشَّاعر.


■ ■ ■


(17)

روح

لا أحد يعرف أين تكمن روح الأرض. هل في الماء أم في الشَّجر، في الحجر أم في الهواء؟ فلنتصوّر، فقط، أنّ كلّ أشجار العالم سقطت دفعة واحدة، ألن تموت الأرض حزنًا بعد أن تكون قد حوّلت البشريّةَ جمعاء دموعًا لها في أثناء حِدادها القصير؟ ولنتصوّر أنَّ الأحجار انقرضت، ألن تصبح الأرض من فصيلة الرّخويات، إذ ستغدو من دون عظام تمامًا، ويكفي وابلٌ من المطر لتحويلها إلى أوحالٍ لا تلوي على بعضها...

إنَّ الأشجار والأحجار والطيور... من العائلات العريقة على هذه الأرض ولا يمكن تصوُّر الحياة بدونها. لذلك، فإنَّ احتفاء الشِّعر بها إنّما هو إلقاء تحيّة على صباح الحياة، تحيّة خضراء تمامًا كروح الأرض.

والخيول؟ كدت أنسى الخيول. وكأنَّ الأرض تستطيع أن تحيا من دون صهيلٍ يُدغدغ أنوثتَها.


■ ■ ■


(18)

اللّغز

في اللّغز الصَّلد للحياة، أحدثَ الشعرُ، في البدء، ثُقْبًا صغيرًا، منه يتسرَّب الضَّوء الآن إلى باقي الألغاز.


■ ■ ■


(19)

الشّاعر والحاجِر
 
خلال مسيرة الشِّعر الطويلة، ظلّ الشُّعراء يضعون قصائدهم في نفس الكفَّة من الخُرج. ولقد وجدوا دائمًا من يضع أحجارًا في الكفَّة الأُخرى. الأحجار تلك لم تكن تضمن التوازن فحسب، وإنّما جعلت بثقلها كفةَ الشعر هي الأعلى. 
 
الشُّعَراء والحُجَرَاء واكبوا الرَّكب منذ فجر الرِّحلة. ولعلّ الضّجر، أو لعلّها الوعثاء ما جعل بعضهم يضع صنيعه في كفَّة البعض الآخر.


■ ■ ■


(20)

أخوّة

لربَّما كانت اللغة إحدى العَدالات الأولى التي سنَّتها البشريَّة في كلُّ العصور. فكما أنَّ الأخضر واليابس سيَّان أمام النَّار، فإنَّ الحصاة والجبل متساويان أمام عدالة اللّغة: فالحصاة كلمة والجبل كلمة فقط وليس كتابًا بسبب حجمه مقارنة مع الحصاة. المُتناهي الكِبر والمتناهي الصغر أصبحا صِنويْن أمام عدالة أُخرى هي عدالة العلم. فالبحث عن مجرّات أُخرى بتيلسكوبات عملاقة يكلّف ما تكلّفه مختبرات البحث عن أسرار فيروسات شديدة الفتك، مع أنها بالكاد تُرى تحت ميكروسكوبات شديدة التَّكبير. هكذا إذن يساوي العلم بين الذَّرة والمجرَّة. 

... وأمَّا بعد: أَلَنْ يكون الشّعر أكثرَ عدالةً فيُؤَاخي بين الشَّذرة والمَلْحَمَة؟


■ ■ ■


(21)

دين

نحن الشُّعراء
وهذا بعض فضْلِنا عليك:
الأرضُ الخراب
آناباز
حجرُ الشَّمس
عُواء
مديحُ الظّل العالي
...
نحن الشُّعراء
وهذا فقط
بعض فضلنا عليك
أيّها القرن الماضي.


* شاعر من المغرب

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون