إبراهيم نصر الله في "حديث الألِف": ليس على الروائي أن يقول كل شيء

09 فبراير 2024
إبراهيم نصر الله مع سمر يزبك في "حديث الألِف" (معتصم الناصر/ العربي الجديد)
+ الخط -

إذا كانت الرواية مختلفة عن "الحدوتة" أو "الخرّافية"، فلأنها تعيد النظر في التاريخ بأكمله وتطرح رؤية. وهي، بهذا الحكم الذي يدافع عنه الروائي والشاعر الأردني الفلسطيني إبراهيم نصر الله، تاريخ روائي ليس مطلوباً منه أن يقول كل شيء، ولا أن يسجّل المجرى التاريخي الذي يسجله مختصّوه، بل يكتب لقارئ حيوي قد يرى ما لم يره الكاتب.

في منتدى "حديث الألِف" الشهري بـ الدوحة مساء أول أمس الأربعاء، تطرّق نصر الله عديد المرات إلى علاقة الكاتب بالقراء، بوصفها علاقة تبادلية، فالكاتب ذاته قارئ، ومؤمن بأن ثمة شعراء وساردين متخفّين في كل البشر يصلون إلى الإشراقة، ثم يعودون منخرطين في مآسيهم اليومية.

إبراهيم نصر الله
إبراهيم نصر الله في "حديث الألِف" (معتصم الناصر/ العربي الجديد)

في روايته "أعراس آمنة" (2004)، يظهر فلسطينيون عاديون في غزّة، إذا ما استعملنا وصف "العادية" لمن لا يُنتجون رسمياً في الأدب والفن، وهؤلاء كما يستعيد الكاتب هم أصحاب الإشراقات التي جعلته يحيلها مباشرة إلى ما نراه حالياً في المشهد الفلسطيني على أرض غزّة. يقول: "نحن نسمع عبارات من الأطفال، علينا أن نبذل جهداً استثنائياً لكي نتمكّن من قولها".


عابر للحروب

جال اللقاء مع إبراهيم نصر الله في مساحة إبداعية للكاتب عرفت ذيوعاً عربياً واسعاً وفي الترجمات إلى لغات أجنبية، وكان الضوء أكثر تركيزاً على نتاجه الروائي، وهو لغزارته يصل إلى 22 رواية تتقاسمها روايات "الملهاة الفلسطينية" و "الشرفات".

كانت رواية "طفولتي حتى الآن" مفتتح الحوار الذي أدارته الكاتبة سمر يزبك. العنوان يشي بالسيرة، وهي، كما يفصح، تمتد من الخمسينيات إلى 2020، وفيها كما يبدو وكما يحاول تحقيقه من حلم قديم يتشكل حول الحب العابر للحروب، أو رغماً عن هذه الحروب، مشيراً إلى أنه كان طوال نشأته يغبط كتّاباً آخرين حول العالم يكتبون عن الحب.

يقول أطفال غزّة عباراتٍ نبذل جهداً لنتمكّن من قولها

لكن إبراهيم نصر الله، إذا ما اقتبسنا عنوان روايته "طيور الحذر"، يحذر من أن تكون الرواية سيرة بالتطابق حتى الجزئي. تتنقل روايته "طفولتي حتى الآن" ضمن تيار الوعي عبر سبعة عقود، وتحضر فيها شخصيات مركبة حزينة في واقع مخيم الوحدات للاجئين (جنوب شرق عمّان) وفي الوقت ذاته تعجّ بالضحك.

هذه الطفولة حتى الآن يريدها الكاتب ويفصح عنها بالقول إنه يأمل أن تظل حين نمارس الكتابة والفن، فهي تجعلهما يقظين بفعل الدهشة التي إن توقفت توقفت الحياة.


بنية ماحية

السيرة عنده "بُنية ماحية" تمرّ على الشخوص وتتحدث عنهم، ثم تتركهم خلفها كما لو أنها محَتهم، بينما كان مسعاه الروائي (وكما يصر مسعى الشخوص الروائية) إلى ألّا ينتهوا نهايات حزينة، بل استطاعوا بقوتهم وعزمهم مواصلة الحياة.

كل واحد من هؤلاء يخوض ذات المعركة التي تُخاض في غزّة الآن للبقاء على قيد الحياة. هذا على المستوى الفردي يراه نصر الله طاقة متدفقة ليروي كل فرد حكايته، بينما يجتمعون ولا بد أن يجتمعوا ليكونوا معاً سردية كبرى تشير إلى شعب اسمه الشعب الفلسطيني.

كان يحلم في طفولته الأُولى بامتلاك كتاب خاص به

أمّا إذا قررنا حسم هوية الكتابة بين السيرة والتخييل، فهو يفضل الحديث عن سيرة ثقافية مضمرة ليس في الرواية فحسب، بل في أي منجز إبداعي، وعليه لا بد من احتراس فنّي يطالب به، ويقضي بأن يخفي الكاتب الوجود السيري المباشر في العمارة الروائية، لأنه يفسدها.

يحضر الروائي أكثر في التعريف، لكأن الخانة المخصصة لا تكفي حتى لخيارين. وبالطبع لا يتحمّل وقت اللقاء تتبع مسيرته، وهي خصبة في الرواية والشعر الفصيح والغنائي بالدارجة بصحبة فرقة "بلدنا"، وأدب الأطفال والتصوير الفوتوغرافي والرسم والسينما المشغوف بها، ويشاهد سنوياً بضع مئات منها ويكتب فيها قراءاته.


هادئ بحر غزّة

غير أنّ القراءات التي تخللت مساحة الحوار مع الروائي قدمت مقاطع شعرية من مجموعاته التي تبلغ 15 ديواناً، وخصوصاً منها التي تتصادى مع النكبة الجديدة في غزّة، كقصيدته الطويلة "الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق"، التي كتبها قبل أربعين عاماً، وهي عن أربعة شبان من مجموعة "غيفارا غزّة" استشهدوا في عملية فدائية في رفح.

بصوت الإعلامي جمال عز الديني، استمعنا إلى "هادئ بحر غزّة، ماء وأشرعة، زرقة وصباح عريض، ونافذة للنوارس أو جدول في الوريد" إلى أن نبلغ المقطع الشهير: "لا أقول لك الآن إني سأمضي إلى الموت، لا أعشق الموت، لكنه سلّمي للحياة".

لا يترك الكاتب نفسه أسيراً للثقة المجانية في أي شيء ما عدا قيماً كبرى. هذا ما يشير إليه حين يقول إن شخصيات رواياته ليست سوى بشر بما فيهم من عيوب وبما لديهم من أفكار ينبغي أن تكون عرضة للتأمل. أما القيم التي ينتمي إليها دون مواربة فمنها الحرية وحق الناس في الحياة.


ملك الجليل

هذا سياق يجرّ للحديث عن "الأبطال" وخصوصاً روايته "قناديل ملك الجليل" (2011)، وفيها تحضر شخصية ظاهر العمر (1695 - 1775) الذي أسّس كياناً في فلسطين متمرداً على السلطنة العثمانية، مثلما حضر من قبل في "زمن الخيول البيضاء" (2007) فوزي القاوقجي القائد العسكري في ثورة 1936 وقائد جيش الإنقاذ في حرب 1948.

إعادة النظر في التاريخ التي سبق الحديث عنها روائياً جعلته يُسقط القاوقجي من مدونة البطولة لدوره الذي رآه كارثياً إبان الثورة الفلسطينية وحرب 1948. بينما لظاهر العمر الزيداني شأن آخر.

وهو هنا يقول: "إننا لسنا بحاجة إلى اختراع أبطال"، إلا أن شخصية ظاهر العمر عبر نصف قرن من التمرد على إمبراطورية مترامية الأطراف أنشأ كيانية فلسطينية تشبه إلى حد بعيد مواصفات الدولة، لجهة فرض الأمن والزراعة والتجارة، بل وإقامة الأحلاف السياسية.

ثمّة شخصياتٌ من المعيب أن تُترك خارج التاريخ الأدبي

يقرر الكاتب أن هذه الشخصية مظلومة، و"من العار أن تُترك خارج التاريخ الأدبي". اكتشف ذلك أثناء عمله على رواية "زمن الخيول البيضاء"، وكان يرغب في تعزيزها بشخصية ظاهر العمر، لكنه ذهب إلى المدى الأبعد بتخصيص رواية كاملة ستصدر في 2011، في الوقت الذي لم يتوافر له من بحث تاريخي صادر عن العمر سوى سيرتين صغيرتين مجموع صفحاتهما فقط 80 صفحة.

استلزم التحضير لها، كما يشير، وقتاً طويلاً نجمت عنه مادة تاريخية تعادل أطروحة دكتوراه، وعليه جاءت الرواية في 560 صفحة كان التاريخ فيها مثل الهيكل العظمي بينما حياة الرواية روح الإنسان.


طفولات

إذا قسمنا الأعمار إلى طفولات فإن نصر الله وهو يصل إلى السبعين من عمره الآن، كان يحلم في طفولته الأُولى بامتلاك كتاب خاص به، حيث كان صف التلاميذ يقرؤون جميعهم من كتاب واحد لا غير تحضِره المعلمة معها وتأخذُه يومياً إلى بيتها.

على هذا كلّه سارت المثابرة الإبداعية للكاتب، حتى سمحت له مدونته الروائية بإعطاء حصة كبرى تحت عنوان ملحمي هو "الملهاة الفلسطينية"، دون أن يعني ذلك أن يكون كل عمل مكمّلاً مباشراً لما سبقه، استمراراً لإيمانه بأن أي رواية ينبغي أن تحظى باستقلالها. ينطبق هذا بالضرورة على حقله الروائي الآخر الذي سمّاه "الشرفات".

المساهمون