منذ اللحظات الأولى التي حللتُ فيها بمطار مدينة فروتسواف، في بولندا، بدأتُ أتلمّس الهويّة العميقة لهذا البلد وأبحث عن الشخصية المشتركة لشعبه. كانت تقودني في ذلك مفاهيم هيغل التي صاغها منذ قرنَيْن، عن الهويّة العميقة لشعبٍ ما؛ مفاهيم قادتِ الألمان، في ما بعد، إلى القول بأفضلية العِرق الآري، ثمّ تحولت إلى إيديولوجيا يمينيّة، أدّت بدورها إلى نشأة النازية التي اكتوت بولندا بنيرانها.
ما هي هويتكم العميقة؟ لا يجد زملائي معنىً لهذا السؤال بعد أن باتت دول العالَم مُتماثلة، تخضع لذات ضغوط العَولَمة والرّقميات، فضلاً عن ارتباطها بكبرى الشّركات العملاقة التي غدت المتحكّم الأوّل في إنتاج المعرفة، وجلّها مُوحّد متماثل. ينظرون إليّ فلا يجدون جواباً. "قام الشعب البولندي من أنقاض الحرب". هذه هي اللازمة التي لم تغب عن مُحاوراتنا، ذكرى الحرب العالمية الثانية حين حطّم الألمان هذه الدولة ودمّروا مبانيها وفق مبدأ "الأرض المحروقة"، ما ولّدَ إحساساً بعقدة نقصٍ يسعى البلد، بعد مضيّ سبعين عاماً، لتجاوز آثارها من أجل الوقوف في مصافّ الدول القويّة، لكنّه وقوف قلبٍ جريح وجسد منهكٍ بالسّهام.
كان النهوض الأول من آثار الحرب يتمثل بمغادرة المعسكر الشيوعيّ وما فَرَضه من قيود على الحرّيات، بما فيها التمتّع بخيرات الأرض. ماضٍ قاسٍ خَضعت فيه بولندا لنَزوات الروس وفظاعات الحُكم السوفييتي. وفي سنة 1989، كَسَر الشعب هذا القيدَ، لكنّ ندوبَه ما زالت ماثلة في جسده، ولذلك لا يشعر بأيّ حنين إلى تلك الحقبة، وقد صارت شبحاً يغذّي خطاب اليمين المتطرّف عِداءً وكراهيةً.
هوية واقعة في "معترك الأحداق" بين الشرق والغرب
ومن علامات هذا النهوض إقبال الشباب البولندي على ثمار الليبرالية ولذائذ الرأسمالية، أحياناً في سذاجة، فقط خضوعاً لاستهلاكيّة تضرب دول العالم بلا استثناء. وهذا قطعاً ما أوقعهم في ما تُسميه الكاتبة البولندية أولغا توكارتشوك، الحائزة جائزة "نوبل للآداب" (2018)، بـ"الفهم الحَرْفي" للعالَم والعجز عن التقاط دلالاته الثاوية وراء المظاهر. مثل كلّ الشعوب تقريباً، تعددت صُوَر الظّاهر العابر الذي يُستهلك بمجرد إنتاجه، وسريعاً ما يُنسى لأنه عارضٌ. مَعنى العالم متماثلٌ لا أصالة فيه، يقدّم عنه صنّاع المعنى لوحاتٍ حرفيّة باهتة يكتفي بها متلقّوها، كجزء من سِلع استهلاكيّة تَتَلاعب بالوعي والخيال.
ومن ضمن هذه السّلع، خطاب مُتطرف يبثّ العداوة للأجانب في ضرب من "انتقام الضحيّة" بسبب من عقدة النقص التي تعشّشت في لاوعي هذا الشعب. وهذا ما تجلى في فوز أحزاب اليمين ومواقف الحكومة المُوالية للولايات المتحدة، وفي ذات الآن برفض للهَيمنة الأوروبية وانكفاء على الذات، حيث يُقسم الشعب إلى "بولنديين حقّ" وإلى "آخرين زائفين"، لأنهم لا يحملون القيَم نفسها، ولا يعظمون الوجوه والرموز نفسها، حتى عُدّ البُرود حيال البابا يوحنا بولس الثاني بمثابة "خيانة" وطنية. فالخلفية الكاثوليكية للشعب قويّة وجذورها ضاربة. وهو ما أسفر عن تشابك بين الكنيسة والدّولة في نموذج يعارض تماماً ما أعرفه في فرنسا، حيث تتداخل خطابات الدين والسياسة ويؤثر كلاهما في الآخر بِتعلّة الحفاظ على الهوية واستمرار المرجعية.
ومن آثار هذه المرجعيّة وجود تراث فيلولوجي متينٌ. وأشهر مَن اغترف من منابعه المستشرق البولندي كازيميرسكي (1808 - 1887) الذي ترجم القرآن (1840) وكتب أهم معجم عربيّ - فرنسي مزدوج، فضلاً عن صياغة "نحو الفارسية" وأبحاثٍ في اللغة العربية وقاموس فرنسي - بولندي. سرتُ في الشوارع الضيّقة متذكراً كيف كان يقضي بياض أيامه وسواد لياليه في تجميع معاني الضاد وترتيبها. وعلى ذكر الضاد، بحثت عن حضور بعض كلماتها في البولندية فوجدتها عديدةً مع تحويرات صوتية جمّة، جلّها اقتُرض من الفرنسية والإسبانية، أو من خلال مجاورة الحُكم العثماني وعقد علاقات تجاريّة وعسكرية، مَعه وضدّه.
ولقد سمعتُ فلسطينَ حاضرةً في مهرجان الألوان الزاهية والأصوات التي تطغى عليها الطاء والشّين والخاء. تناهت إلى سمعي، في مَركز المدينة البهيج، أصواتٌ عربية لم أتبين إلى أية لهجة تنتمي. حاورت العربيّ الذي تدلّت على كتفيه الكوفية الفلسطينية، فإذا به "غَزّاوي" حرٌّ، يشارك في فعالية ثقافية (معرض صور عن فلسطين قبل النكبة وبعدها)، في قلب مشهد شبابي مقبل على ملاذّ الحياة، رقصاً وغناءً وشراباً. أخبرني أنّ السفارة نظّمت هذا المعرض، على تواضعه، لتوعية البولنديين بالقضيّة الفلسطينية. فَحمدت للحكومة الترخيص هذا، لعِلمي أنها متعاطفة مع "إسرائيل"، وشكرتُ لهؤلاء الشباب الفلسطينيين تعريفَهم بالقضيّة حتى لا تُنسى.
تساءلتُ آملاً: كيف لشعب عاش امّحاء خريطته، منذ 1795 ولمّدة قرن، بعد أن احتلّتها ثلاث قوى ــ روسيا التي بسطت نفوذها عليها من جهة الشرق، ألمانيا والنمسا ــ حتى غابت عن جغرافيا العالم، ثم استرجعت قطعةً قطعة بفضل المفاوضات تارةً والحروب تارةً أُخرى، كيف له أن يعجز عن فهم مأساة الشعب الفلسطيني وعن إدراك أنّ ما يَعيشه اليوم شبيهٌ بمأساة بولندا أمس؟ أخشى أن يكون توجّههم للغرب أقوى.
سُعدت بمشاهدة فعالية مناصرة لفلسطين، لعِلمي بتعاطف الحكومة مع "إسرائيل"
وأخشى أن ينشأ إلى جانب إحساس بالتبعية نقيضُه، أي شعورٌ بفوقيّة حيال ملايين الأوكرانيين الذين نزحوا إلى بلدهم، فَقَبِلوهم بصدر رحب أولاً نكايةً في الرّوس، العدو اللدود المشترك، ثم لأنّ استقبالهم يوفر فرصاً جيوسياسية ومالية نادرة، لم يكن القادة يحلمون بها، فهي تَضع بلدهم، بولندا، في مصاف الدول المهمة التي تلعب دوراً ما خلال هذه الحرب، بعد أن كانت تابعة، لم توكَل لها أية مهمة بهذا الخطر والدلالة.
وهكذا، يمكن تلخيص هذه الهويّة في الرقص على التناقضات والسّعي للمواءمة بينها: الانتماء إلى المعسكر الغربي بقيَم حداثته وما بعدها، مقابل انكفاءٍ على الذات والعودة إلى الماضي السّحيق؛ الانضمام إلى النظام الرأسمالي، مع استذكار الحقبة الإقطاعية وأيقونات الشيوعيّة. ولعل أجمل ما يلخص هذه التناقضات ما شاهدته في كنيسة: تشارك فرقة عمّال مناجم في مسابقة للإنشاد الرّوحي المسيحي، وهم يرتدون قبّعات تظلّل كل واحدةٍ منها خمس ريشات بيض.
كانت رحلتي سفراً بين الماضي والحاضر، بحثاً في ذاكرة شعبٍ مُتعب بهويّاته المتناحرة. رأيت شباباً مبتهجين، تهزّهم "فرحة الحياة"، وأمّةً تَنهض من دوّامة العَدم والبَرد والحروب، تستشرف مُستقبلها بخُطوات أقربَ إلى الخوف منها إلى الاتّزان. خطابها ملتفتٌ إلى الذاكرة - الملاذ، دون قطْع مع سرعة المتغيرات الراهنة. أدركتُ، في أيامٍ، أنّ تاريخ هذا البلد شديد التعقيد، تعاقبت عليه أنساق إيديولوجية متباينة، مرجعياتها متضاربة، من النازية إلى الشيوعية ومن الكاثوليكيّة إلى الفلسفة. لا بدّ من أعمال بحثية معمّقة تجلي بعض مكوّنات هذه الهوية الواقعة في "معترك الأحداق" بين الشرق والغرب.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس