أوليفييه مارتان: في تحجيم سُلطة الأرقام

05 يناير 2023
جزء من "ارتجال رقم 10" لـ فاسيلي كاندينسكي (Getty)
+ الخط -

يرتبط قسمٌ واسع من معارفنا، ولا سيّما "الرسمية" والعِلمية أو التكنولوجية منها، بالأرقام: معرفتنا بالناتج المحلّي الإجمالي، وبنسبة الذي لا يملكون عملاً، أو هؤلاء الذين يصوّتون لليسار أو اليمين، أو حتى معرفتنا بالوقت، وبمساحة الأرض، وغيرها ممّا يمكن قياسه والتمثيل عليه بالأرقام.

لكنّ الأرقام لا تتوقّف عند هذا الجانب الوصفي الاعتيادي. إذ يكفي اليوم أن يخبرنا شخصٌ، أو أن يكتب أحدهم في مقاله، أن المعطيات والأخبار التي يقدّمها لنا معزّزةٌ "بالأرقام"، حتى يتوقّع منّا أن نصدّق ما يقوله بوصفه حقيقةً أو ما يناهز الحقيقة.

عن منشورات "آناموزا" في باريس، صدر حديثاً كتاب "رقم" لعالم الاجتماع والإحصاء الفرنسي أولفييه مارتان، الذي يسعى إلى فهم التاريخ الذي قاد المجتمعات المُعاصرة إلى جعل الرقم رديفاً للواقع، وللحقيقة في بعض الأحيان.

أوليفييه مارتان: في تحجيم سُلطة الأرقام

وأوّل ما يقدّمه في المؤلّف في هذا السياق هو قولُه بعدم طبيعية الأرقام، فهي، بحسب تعبيره، ظاهرة اجتماعية، نعثر على آثار قديمة لها في الحضارتين الرافدينية والمصرية، حيث وُجد الرقم ليستطيع الناس الاتفاق على العديد من المعطيات التي تُحيط بهم في الطبيعة، مثل المحاصيل، ومواقيت شروق الشمس وغروبها، وغيرها.

ويضيف مارتان أن الرقم إذا كان في البداية وسيلةً للتفاهم بين الناس، وللاتفاق على علاقتهم بالطبيعة، فإنه تحوّل مع الوقت إلى غرضٍ راحت المجتمعات، والسلطات السياسية، تلجأ له من أجل تسهيل اتّخاذ قرارات.

لكنّ فهمنا الحالي للرقم لم يولَد، بحسب الكتاب، إلّا في نهايات القرن التاسع عشر، حيث راح العُلماء يستعينون بشكل متزايد بالأرقام، وهو ما سبّب خلطاً، مع الوقت، بين الأرقام والعلوم، مع أن الأولى تفوق الثانية عُمراً بقرون.

ويُشير مارتان إلى أن الأرقام لا تصف الطبيعة ــ وهي وظيفة العلوم ــ، بل تصف تمثّلات المجتمعات الإنسانية حول الطبيعة، وهو ما يدعو إلى التعامُل معها بوصفها معطياتٍ جزئية، لا حقائق قائمة بذاتها.

كما يفنّد الباحث سلطة الأرقام من خلال التذكير بثانويتها، فنحن لا نستطيع قياس أو إحصاء أمر أو شخص أو مجموعة من الأشخاص من دون تعريفٍ وصفيّ سابق على الرقم، كما أن الاختلاف على تعريف قضيّة ما، واختلاف المواقف منها، يقودان إلى تعامُل مختلف بين الناس حول الأرقام التي تمثّل هذه القضية (مثل نسب التصويت في الانتخابات، أو نسب البطالة)، وهو ما يذكّرنا، مرّة أُخرى، بأن الأرقام ظاهرةٌ تعتمد، أوّلاً وآخراً، على المعنى الذي نمنحها إيّاه.

المساهمون