استمع إلى الملخص
- **التناقضات في القيم والتطبيقات**: فرنسا أظهرت تناقضاً بين شعاراتها وتطبيقاتها الفعلية، مثل فرض قيود على الحجاب، بينما كانت قطر واضحة في مواقفها رغم الانتقادات.
- **ازدواجية المعايير**: فرنسا منعت الرياضيين الروس بسبب أوكرانيا، لكنها لم تتخذ موقفاً تجاه الجرائم الإسرائيلية، في حين كانت قطر أكثر اتساقاً في مواقفها.
تَفرض بعضُ المقارنات نفسها على الوعي، فلا يملك أن يدفعها. ومن ذلك الموازنة بين أولمبياد فرنسا بحفل افتتاحه وفعالياته المستمرّة حالياً، وما جرى في مونديال قطر منذ سنتين: فكلاهما تظاهرة رياضية عالمية، تستند إلى الثقافة وتعتمد على بعض تعبيراتها الفنّية والفكرية لتمرير جملة من القيم الرمزية. ولا حرج في هذا الاستناد، فهو قوام أيّ منجز بشري ذي بعد عالمي، مهما كانت طبيعته. لكنّنا، حين نُدقّق النظر في هذين الحدثَين، نجد أنّ المضمون يختلف اختلافاً جوهرياً، وأنّ طريقتَي توظيف العامل الثقافي في البلدين تقعان على طرفَي نقيض: الصعود والسقوط. فأين تتجلّى مظاهر هذا التفاوت وما أسبابها؟
وضعت كلٌّ من فرنسا وقطر ثقلهما في حفل الافتتاح باعتباره مرآة التظاهرة وعنوانها الموجِّه لها، حتى يكون بمثابة عتبة سيمائية ضخمة أو مدخل حاسم لـ"إمبراطورية المعنى"، تُظهران من خلاله مرجعية الدولة الفكرية. فقد وصف البعض حفل الافتتاح الباريسي بأنّه "مُذهل"، في حين أنّ الفحص المتأنّي للرسائل الثقافية التي باطنت العروض المقدَّمة خلاله لا تتضمّن أيّ محتوى قيَمي واضح: فراغ يصمّ الآذان، ضخّمه تكرار نفس التمثلات والكليشيهات التي تجاوزها الزمن، ومن ذلك أغنية إديث بياف التي أدّتها المغنّية الكندية سيلين ديون، والتي بدت في قطيعة واضحة مع سياقنا الراهن.
وذرّاً للرماد في العيون، حاولت هيئة التنظيم تدشين الفعاليات بعرض تمثال برونزي لامرأة سوداء البشرة، تُمسك بغصن زيتون وتجلس على ستّة مقاعد، في إشارة إلى قارات البسيطة وإيماء إلى قبول التنوّع البشري واختلاف ثقافات بني الإنسان. ولكن في الواقع، فرضت وزارة الرياضة حظراً على ارتداء الحجاب على المسلمات، وهو من سمات التنوّع، وذلك بذريعة أنّ الحجاب "يمسّ بالعلمانية". ويبدو أنّ الوزارة تراجَعت تحت ضغط الهيئات العالميّة للرياضة ولجانها القانونية.
تمجيدٌ ضُخّمت فيه اللوحات الإيجابية على حساب الحقيقة
كانت المقولات التي نشرتها هيئة مونديال قطر تحثّ على مبدأ التعارف، المستوحى من القرآن بوصفه غاية الوجود، وعلى الانفتاح مع التجذّر في أعماق الأصالة العربية بتاريخها الممتدّ. في حين أنّ ما مرّره الأولمبياد من قيم باهتٌ مكرور لا يؤول إلى مرجعية فكرية واضحة، يغلب عليه التصنّع والعموم: مجرّد شعارات يعلم الجميع أنّها لا تنطبق على الواقع، فضلاً عن كونها لا تنتمي إلى أي نسق فلسفي جامع، فجلّها خيارات تقسم المجتمع وتُثير فيه الحساسيات والجدل.
إلى جانب ذلك، اعتمد العرض الافتتاحي على التلاعب بالأضواء وتقاطعاتها وألوانها وأطيافها ودرجات ضيائها. وكأنّ هذا النموذج في حدّ ذاته استعارة تومئ إلى الحدث بأسره: مجرّد أضواء تخلب الأبصار، غرضها إبهار المتابعين لِلحظات عابرة، دون تقديم أيّة مادّة تضيء الضمائرـ لأنّها لا تنبثق أصلاً من مصدر تنوير، فهي توظيفات يُتقنها مهندسو الإضاءة ولا تفتح العيون على ما يجري في العالم... من جرائم.
عروض تائهة بين نظريات التحرّر الجنسي والخصوصية المقدَّسة
وفي هذا النموذج، ترتبط الأيقونات والصور والملابس والديكورات بمبدأ الجسد العاري، المهمّش التائه بين نظريات التحرّر الجنسي والخصوصية المقدَّسة، جسدٍ تلاعبت به سياسات العلاج والموضة والتغذية المتضاربة وزاد من هشاشته إفقار المستشفيات والإيقاع الحضري، علاوةً على توظيف شركات الإشهار وأطماع الرأسمالية الاستهلاكية التي أنهكته في مسار تشيئة لم تنقطع طيلة القرن المنصرم. فكانت الرقصات الاستعراضية تعبيراً عن هذه المرارة، حركات تمرُّد لا إلى وجهة وبلا مغزى بسبب تهافت فلسفات الجسد وتضاربها وعدميتها منذ نيتشه إلى فوكو.
حاول المنظمون إضفاء بعدٍ ثقافيّ على هذا الحدث، لكنه بُعدٌ باهت متعثّر، يبحث عن دربه عبر توظيف بعض الشخصيات العامّة، المحبوبة لدى أوساط الشباب، مثل سنوب دوغ وجمال دبوس وزيدان وغيرهم، فقط من أجل صرف الانتباه عن سياسات التمييز. فلو كان ثمّة إيمانٌ حقيقي بالتنوّع، لما رُفض الحجاب، وهو حق أساسيّ لا ينفصل عن حرية التعبير والضمير، ولا فُتحت جبهات تحرّش ضدّ الرياضيّين العرب والمسلمين لتعلّات واهية.
وفي المقابل، كانت عروض قطر تجسيداً لتاريخٍ تعاقبت أطواره كقافلة تضرب بجذورها في بدايات الإنسانية ضمن ذاكرة ذلك الشرق الأوسط المهيب. ومع ذلك، ارتفعت حينها أصوات الناقدين لشجب ما اعتبروه تجاوزاً قطرياً لحقوق الإنسان. لكنّها غابت اليوم تماماً وامتنعت عن إدانة مظاهر التقتيل والإبادة التي طالت البشر والحجر في غزّة. وهي جرائم أخطر بمرّات ممّا عيب على قطر.
إدانة الجرائم ضدّ الإنسانية من صميم الرياضة وليست إقحاماً للسياسة
فعندما مَنعت هذه الأخيرة مظاهر الاحتفاء بالمثلية، وهذا حقُّها المطلق قانونياً واجتماعياً، قامت الدنيا ولم تقعد وانبرت العديد من جمعيات حقوق الإنسان تُدينها بصرامة. ولمّا أراد البعض، في هذه الأيام، الإشارة إلى حرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون، شنّت الهيئات الفرنسية، ولا تزال، حملات شعواء ضدّ أدنى مظهر من مظاهر التعاطف في ازدواجيةٍ للمعايير ممجوجة، بدعوى "عدم الخلط بين الرياضة والسياسة"، في حين أنّهم هُم مَن خلطوا بينهما خلطاً سافراً. فمن مظاهر هذا الازدواج فرض قيود صارمة على مشاركة الروس وحرمانهم من رفع راية بلدهم بتعلّة اجتياح الأراضي الأوكرانية. وها هي "إسرائيل" قد احتلّت أراضي فلسطين وجولان سورية واقترفت حرب إبادة (قُتل فيها إلى حد الآن أكثر من أربعين ألفا)، دون أن يمارَس أيُّ ضغط على رياضيّي هذا الكيان.
إدانة الجرائم ضدّ الإنسانية من صميم العمل الرياضي وليست إقحاماً للسياسة. وإن تعذّر ذلك، فلا أقلّ من لفتة إلى فظاعات الماضي حتى لا تقتصر العروض على تقديم تاريخ تمجيدي انتقائي لمدينة باريس، تُضخَّم فيه اللوحات الإيجابية على حساب الحقيقة. وقد أصاب الوفد الجزائري حين ذكّر بمجزرة 17 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1961 المعروفة بـ"مذبحة نهر السين"، باعتبارها صفحة من أحلك الصفحات في تاريخ هذه المدينة. فمن مؤسّساتها ووزاراتها وأقبيتها، انطلقت ولا تزال حملات النهب والاستعمار والهيمنة على الشعوب الفقيرة تحت مسميات شتّى. وكان من الأجدر أن يكون الأولمبياد فرصة لتقديم ولو اعتذار جزئي عمّا صدر من فرنسا في حقّ الشعوب المشارِكة، سواء أكانت عربية أو أفريقية أم هندو-صينيّة، وأن تمدّ إليها "غصن زيتون" فعلياً (اعتذار وتعويضات مالية)، لا يقتصر على عنصر تزييني في التمثال البرنزي.
وفي الحقيقة، لا تكاد المقارنات تقف عند حدٍّ، وجُلُّها يُفضي إلى نفس النتيجة: صعود مشروع منفتح على الكونية من أجل التحرّر من نير الهيمنة الغربية وأفول آخر: يسعى مشروع قطر الثقافي إلى نشر مضمون كوني منفتح ومُعاصر. وما تُقدّمه فرنسا بقايا بناء متقادم "آيل للسقوط"، استنفد كلّ طاقاته الفكرية والإبداعية السابقة، فلم يعُد له من متانة فكرية أو منهجية يقوى بها على مواجهة تحدّيات العصر ورهانات المستقبل.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس