في عام 1920، قابَل وفدٌ رفيع من فلسطين وزيرَ المستعمرات البريطاني في ذلك الحين، ونستون تشرشل، في القدس، وطالبه بضرورة تمثيل الشعب الفلسطيني تمثيلاً ديمقراطياً إذا ما أُجريت أي انتخابات برلمانية في فلسطين، بعد أن احتلّها الجيش البريطاني نهاية عام 1917، فأجابهم تشرشل: "إنّنا سنُطوّر المؤسّسات الديمقراطية خطوةً خطوة، وسيؤدّي ذلك إلى حكومة كاملة الاستقلال، ولكن هذا لن يتمّ قبل وفاة أولاد أولادكم".
لم يتغيّر الكثيرُ منذ أن أعلن تشرشل هذا التصريح العجيب؛ فقد ماتَ كثيرٌ من الفلسطينيّين منذ ذلك التاريخ، ولم يحصلوا على التمثيل الذي يعادل وجودهم، بل إنّ العكس هو الذي يحدث، ولم يكن الرهان على انكشاف الحقيقة اللاإنسانية التي تكمن وراء جملة تشرشل الأخيرة من الإصرار على حرمان الفلسطينيّين من حقوقهم، أيّ قيمة، إذ إنّ التاريخ (وهو مسألة أُخرى، استخدمت بقوّة وبطرائق فاسدة ووقحة إلى أبعد الحدود من قبل الحركة الصهيونية، وأنصارها في العالم الغربي، وفي الولايات المتّحدة في ما بعد) القريب والمعاصر لم يُغيّر أيّ شيء في موقف قادة العالم الغربي من القضية الفلسطينية ومن الفلسطينيّين، معتمدين على صمم تاريخي أضحى مزمناً، كما يبدو، وليس لدى الفلسطينيّين أيُّ أمل في تغييره في الزمن المنظور.
ليست الديمقراطية والحرية ضروريّتَين إذا تعلّق الأمر بفلسطين
وهكذا، فإنّ عبارة تشرشل عن الديمقراطية، والديمقراطية واحدة من الدعائم التأسيسية في المجتمعات الرأسمالية، وفي الخطاب السياسي والاجتماعي والاقتصادي لقادة تلك المجتمعات، عن أنفسهم، وعن "رسالتهم" في العالم، لم تكن فقط جزءاً من خطّة تكتيكية تهدف إلى إرساء الدولة الصهيونية في ذلك الوقت، عبر التغاضي عن بعض الأسس في السياسة، بل تفكيراً استراتيجياً عميقاً مستعدّاً للتضحية بها، والتخلّي عنها، وعن المبادئ الأُخرى التي أُرسيت عليها مجتمعاتهم، حين تتعارض مع مصالحهم. وهكذا تمنع الحكومات الغربية مواطنيها من التظاهر تأييداً للفلسطينيّين، لا لحماس، إذ باتت تفكّر، على النمط الصهيوني، أنّ الديمقراطية والحرية غير ضروريّتَين الآن.
لا تختلف "إسرائيل" عن ذلك، وقد ورث الصهاينة، كما ندرك اليوم، تلك الوصفات من صبغيات الرأسمالية المؤيّدة لقيامها كدولة، ولم يكن لدى الصهاينة في أيّ يوم مشكلة مع الإنسانية، ما دامت الإجراءات التي يتّخذونها تتناسب مع مصالحهم. ويمكن لأي تاريخ أن يقدّم لنا عشرات الملفّات التي تؤكّد ذلك الانتقاء غير الحذر، المكشوف، والوقح كثيراً، للمبادئ التي تزعم أنها من أسس المجتمع المتقدّم، ولدى الإسرائيليّين حزمة كاملة من التبريرات التي يقبلها قادة الغرب، وتُردّدها مؤسّسات الدعم التي تعرف جيّداً أنها كاذبة، من أجل تسوية المسائل التي تساعدهم في مشروع الاستيطان، ابتداءً من المذابح التي سُمّيت التطهير، وانتهاءً بأعمال الطرد والتهجير التي مورست، وتمارَس اليوم في غزّة على مسمع من العالم كلّه، مدعومة بالصمت الآسيوي، أو بالغمغمة العربية، أو بالتواطؤ الصريح أو الملتوي من قادة الغرب.
وأولادُ أولاد الفلسطينيّين الذين لم يرهم تشرشل، لا يزالون أحياءً، وليسوا جميعاً أعضاءً في حركة حماس، ومنهم من لا يؤيّدونها، ولكنّهم لا يتنازلون لحظةً واحدة عن حقوقهم الفلسطينية التي يعرفون أسماءها جيّداً خارج أيّ تاريخ مزوَّر.
* روائي من سورية