"فاز الكاتب بالجائزة"، هكذا يقول الخبر. وحتّى يصبحَ القولُ دسماً، لا بدّ للذي زفّ الخبر إلينا، بمقالة كتبها، من تسمين خبرِه وتفخيم المُنجَز بعبارات من قَبيل "ليس من السهل"، وأن يصفَ من يُخبرُنا عنه بأنّه قد "تخطّى كلّ الحواجز المنصوبة" وصولاً إلى "تجاوُز جدار التابو التطبيعي".
وفي غمرة هذه الحماسة، ينسى الكاتبُ كلَّ الحماسات الدبلوماسية المَشهودة في فتح سفارات للكيان الصهيوني، والتي ابتذلتها دولٌ عربية في الأعوام الأخيرة - ويا لمجّانية ما أُريقَ من ماء الوجه. كلُّ هذا هو التيار الوحيد الفريد الذي يشقّ بتَؤُدة وتصميم بحرَ الممنوع. رغمَ أنّ صاحب الخبر لو تلفّتَ قليلاً، حيثُ هو، لوجَد أنّ "التابو" الذي استفظعه قد صار قراراً سياسياً رسمياً يتبنّاه النظام العربي، ويُشرِّع أبواب سجونه - وما أكثرها - لمن يرفضه.
ما الجائزة؟ إنّها "القسطنطينية"... لنعبرْ إذن صوب "الآخَر" ونتخطَّ أسوار المدينة المنيعة بعد أن ذلّلها متين أرديتي، مخترع الجائزة، الذي لا يبرح "جامعة تل أبيب" إلّا وهو ينثر من حوله همومَه "الخيرية" المنصبّة على تطبيع الأطفال من خلال الأنشطة المسرحية وما شاكلها. وهذا المتين لا يكتمل "خيرُه" بمنح إلياس صنبر سفير فلسطين في اليونسكو - ما زال في منصبِه هذا منذ خمسة عشر عاماً؟ - جائزتَه، إلّا إذا ناصفه إيّاها سفير "إسرائيل" السابق لدى فرنسا إيلي بارنافي (2000 - 2002). وبعد بذخ الجوائز، ليس أسهل من إسباغ الألقاب العِلمية عليهما، فاستحالا على يَديه إلى "مؤرّخين". بذا، فلا فلسطين ظلّتِ "البلد الآتي"، ولا نأَى "القاموس العاشق لفلسطين" بصاحبه عن خاتمة تطبيعية بئيسة ارتضاها بقبول هذه الجائزة.
لم يكن بارنافي سوى صهيوني معادٍ للقضية الفلسطينية
ولو أنّ ذلك غير مفاجئ تماماً، فالبوادر والإشارات كانت قد سبقت صاحبها، مع أنّ مدينة التطبيع الفاسدة ليست طروادة وما ينبغي لها، لكنّ أهلها الموغلين بفسادهم يريدون منّا أن نُعلن مَن وهبوه الجائزة أنّه صِنو "أوليس" فطنةً... بأقلّ من ذلك لا نكون قد أُصِبنا بمقتَلٍ أبداً!
ما يُصوَّر أنّ إلياس صنبر قد خاضه إذ وصل الضفّة بالضفّة، ثم احتضن الآخر بعد أن أعيته "حواجز المناضلين من أعداء التطبيع" لم يكن سوى تلاقٍ مع شخصية صهيونية من الطراز الرفيع، إذ يبدو أن صنبر قد قطع مقولة "هذا من اليسار ويختلف عنهم" بأشواط. نحن لا نتحدّث هنا عن أولئك الذين انشقّوا عن الفكرة الصهيونية، فبارنافي بدأ حياته في "الجيش الإسرائيلي" أثناء حرب 1967، كما لم يتورّع بعدها يوماً عن الالتحاق كموظّف بدبلوماسية قذرة في ذروة الإجرام الإسرائيلي أثناء الانتفاضة الثانية، لا بل برع براعة رخيصة في الدفاع عن جرائم كيانه المُحتلّ عندما كتب - على سبيل المثال لا الحصر- عام 2008 واصفاً المصوّر طلال أبو رحمة الذي صوّر عملية قتل "الجيش الإسرائيلي" للطفل محمّد الدرّة في حضن أبيه، بأنّه مجرّد "مروّج لبروباغندا القضية الفلسطينية".
هذا هو الرجل بسجلّه الدبلوماسي ورُتَبِه العسكرية، أمّا من حيثُ هو "مؤرّخ" وشريك لصنبر بجائزته، ففهمُه للتاريخ والعمل به لم يتجاوَزِ الالتحاق المُتخلّف بصفوف صامويل هنتنغتون في كتب صهيونية تشيطن الإسلام باعتباره المنتِج الحصري للعنف والإرهاب؛ بل إنّ الناقد الفرنسي - البلغاري تزفيتان تودروف ينبّه في كتابه "الخوف من البرابرة" (2008)، من أنّ إيلي بارنافي لم يكن سوى إسلاموفوبي متطرّف شدّ مقولة "صدام الحضارات"، التي روّج لها هنتنغتون، إلى أبعد حدودها وأوّلها بمعانٍ دينية ضيّقة بما هي موجّهة ضدّ الإسلام والمسلمين فقط، بوصفهم نقيضاً بربرياً عن "المتحضّر الغربي" بما لا يدع مجالاً للحوار معهم.
الخوض في كلّ ما سبق ليس أكثر من "تابو" في عُرفِ المادح المُطنِب الذي زفّ لنا الخبر، فالأهمّ برأيه أن نُركّز على سحرِ البيان الذي يشفُّ عن لغةِ مَمدوحَيه الرائقة في كلٍّ من: "مُلك الغائبين" لإلياس صنبر (منشورات أكت سود)، و"اعترافات رجل عديم النفع" لـ إيلي بارنافي (منشورات غراسيه)، فهل سوى الفرنكفونية تجمع الشتيتين، وفي حال قد ظَنَّا السوء ببعضهما سابقاً فذلك - كما قالت العرب - من باب العِصمة. لكن، ما قيمةُ المنفعة من عدمها طالما أنّ جلسة الاعتراف انتهت، وانتقلنا من عتبَة سحر البيان إلى الكشف والعرفان، فالشارة الكبرى تنبئ أنّ كِلا الرجلين يحمل الاسم نفسه إيلي/ إلياس، كذا جأر القطبُ العارف الذي زفّ البُشرى وكتبَ الخبر في مقاله المَرجِع؛ قبل أن تستبدّ به إغماءةُ المعرفة.
"الإبراهيمية" آخر صيحات الدجَل المسكِّن لآلام المُطبّعين
وبالانتقال من مقام الإشارات إلى طقوس التحوّلات، سنجد أنّ إلياس صنبر نأى بنفسه عام 2015 بعد أن رفضت أمين عام اليونسكو إرينا بوكوفا تضمين 1500 مُلصق من مُلصقات الثورة الفلسطينية ضمن مشروع المنظّمة التوثيقي لحفظ التراث الثقافي العالمي. ونأيُ صنبر جاء بحجّة أنّ الأمين العام للمنظّمة رأت فيها "معاداةً للسامية"! ومن ردود الفعل حينها على تصرُّف السفير المُمتثِل، أنّه قيل إذا كان المُمثّل الثقافي ينأى عن إرث مادّي مباشر من إرث شعبه في مواجهته اليَومية لأدوات القتل الإسرائيلية فمَن الذي يكترث، وممّن يُنتظَر ذاك الدّور؟
وللإجابة عن هذا السؤال، ليس علينا سوى أن ننظُر إلى تواقيع الفنّانين من كلّ دول العالم، تواقيعُ مهرَت تلك الملصقات لا لتقول للمحتلّ إنّ إجرامَه مكشوف عالمياً، إنّما لتظهر لنا نُخباً عاجزة ولاهثة خلف "الاعتراف". لا بل هذا هو المعنى الجوهري للتلاقي والعبور والآخَر، فيدُ الفنّان التي خطّت مُلصَقاً هي اليد الأَولى أن نشبكَ معها ونصافحها، لا اليد التي حملت سلاحاً ووجّهته إلى صدورنا، ثمّ خطّت تاريخاً عنصرياً ضدّنا.
ولكن حتّى يكتمل بؤس المشهد بحذافيره، فإنّنا سنكتشف مع الكاتب الذي زفّ لنا خبر الجائزة، أنّ الانفتاح الذي ينشده لا يكترث بأقلام الفنانين من مختلف أقطاب العالم الذين انتصروا للقضية الفلسطينية، بل هو انفتاح محدود بحدود فِطنته التي تُقارن بين اسمَي إلياس وإيلي، وتسفحُ مجهودها العقلي في تسقّط خلفيات صاحبَيه ومدلولات اسميهما الدينية "الإبراهيمية"، بوصفها آخر صيحة من صيحات الدّجَل الديني المُسكِّن لآلام المُطبّعين. فالقيمة كلّ القيمة للأشباه التي تلتحق بنظائرها فقط، أمّا المجزرة التي ما زالت متواصِلة بحقّ الشعب الفلسطيني منذ أكثر من سبعين عاماً فليست بعُرفه سوى "تابو".
سؤال لا ينتظر إجابة
بعيداً عن جهدٍ نبذله في الرد على باطلٍ من الأجدر إماتته بالسكوت عنه، فإنّ تساؤلاً أخيراً يطرحُه علينا الكاتب، من قبيل: لماذا لا يشنِّع قومُ بارنافي عليه كما يحدث عادة مع المطبّعين العرب؟ ما يمنعنا من أن نكون مثلهم هو شيء وحيد: أنّ أرضنا وبلادنا هي المحتلّة، ولو كان الأمرُ معكوساً، هل كان الإسرائيليون سيرضون بمثل بارنافي، أو يسمحون بظهور أمثال كاتبنا العبقري بين ظهرانيهم؟ سؤال لا ينتظر إجابة.