أن تموت هنا

07 فبراير 2023
ألوان منازل مدينة إسكندرونة قبل الزلزال (Getty)
+ الخط -

لقد مررتُ من هنا قبل أن يمرّ بطريرك أنطاكية بعقودٍ. وكنتُ قد وصلتُ في ساعات الصباح المبكّرة، آتيًا من الشرق، لا أملكُ سوى خارطة كنتُ قد وجدتها على قارعةِ الطريقِ، مكتوب عليها: "أنطاكية، مدينة الله العظمى". خبّأتها في جيبي، قبل أن يلاحظ ذلك السيّد ياسين الحسن، بعدما قال معلنًا أننا ذاهبون نحو البحر، لا الغابة، لأن هنا في لواء إسكندرون كلّ الأشياء تبدأ من هذا البحر الذي تتّصل بهِ الغيوم، ولأن أنطاكية هي تاجُ الشرق الجميل.

ترجّلتُ من السيّارة بعدما وصلنا إلى البحر، ورأيتُ تلك الغيوم التي لا تنفصل عن مستوى سطح البحر أبدًا. بعدها استأنف السيّد ياسين الحسن قوله: "أترى كلّ هذا؟ تلك الغيوم تتّصل بالبحر أولًا، وتصبح جزءًا منه، كما هو حالي، فأنا لا أستطيع سوى أن أكون جزءًا من هذا البحر، لأن هذا البحر هو وحده مَن يعرف خيباتي وأفكاري المجحفة في حقّ ذاتي. بحر إسكندرون وحده مَن يسمع خطواتي القادمة نحوه، وهو الذي يراني كل صباح، أفتح كتابًا وأقرأ له خوفًا من أن يطوف ويقتلني. وتجدني أجلس هنا كي أتنفّس وأصيد بعضًا من الأسماك، ومن بعدها أذهب نحو النزل كي ألتهم وجبةً لذيذةً من السمك المقلي". ثم قال يسأل: "أتعلم ما هو الولاء؟".

لقد عدنا من البحر وأنا لا أعلم ما هو الولاء حقًّا. ودون أيّ سابق إنذار، بدأنا نشعرُ بهزّة خفيفة بينما راحت الأرض تنشقّ من تحتنا، ومن بعدها تختفي البيوت، ويتلاشى الرخام، ويتحطّم قرميد الأسطح، ومكابح السيّارة لا تعمل. وأسمع السيّد ياسين الحسن يقول: "أتعلم بأن 'تيلوريا' تحيل، في اللغة اللاتنية، إلى الأرض وما هو أرضيّ... لكن، أتعلم ما هي الأرضُ حقًا؟".

الولاء هو أن تموت هنا، أن تلتهمك هذه الأرض بالتحديد

لكنّ الأرض تستمرّ بالانشقاق والناس لا تستطيع الخروج من بيوتها، والسيّارة لا يمكنها الصعود، إنها تنزل مجدّدًا نحو البحر. وصوتٌ آتٍ من المذيّاع يصرخ: "زلزال يضرب لواء إسكندرون ومدينة حلب بلغت قوته 7.5 على سلّم ريختر"، والناس تحت الأنقاض، يحاولون الخروج من هناك، وذلك البلد الأمين يصبح حطامًا، والناس تضيع، تتماهى مع الإسمنت، والعالم، بالطبع... هناك، متفرّجٌ عظيم.

لكنّ السيّد ياسين الحسن لا يزال يتفوّه بالكلمات، بينما تتأرجح السيّارة نحو الأسفل: هذه الأرض هي أرضنا العظمى، وهذه الأرض هي أرضنا نحن، قبل أن يتمّ غزوها وتصبح إرثًا متنازعًا عليه. هذا هو لواء إسكندرون الكبير، وذاك هو خليج السويدية في جنوب اللواء. لقد عشتُ على هذه الأرض، وزرعتُ ثمّ حصدتُ. كبرتُ هنا. وتماهيتُ مع الأرض ومع البحر، والآن ها أنا أموت، لكنّه موتٌ سعيد. أتذكر كلمة تُدعى 'الولاء' يا بُنَيّ؟ يا لها من كلمةٍ مقلِقة. الولاء هو أن تموت هنا، أن تلتهمك هذه الأرض بالتحديد".


* كاتب من فلسطين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون