كان كابوساً، لكن ذلك لن يخفف من وقع المسألة، لو أنّها وقعت عليّ بشكلها التام والحقيقي لكان وقعها أهون من أن أكون مُشاهداً من بعيد. أنا خارج المحرقة، وهذا يعذبني أكثر مما لو كنت داخلها، وكنت بالفعل أنتظر حتفي.
ما حدث ربما يفسره العلم أنه تراكم مشاهداتي ومخاوفي التي حولها عقلي اللاواعي إلى كابوس دام، في النهاية الكابوس لن يأخذ منك سوى راحتك ويلخبط ساعات نومك، ما الذي خسرته سوى أنني صحوت في الخامسة بدلاً من السادسة فجراً؟ وماذا يعني أن أكون مرعوباً، ولا يمكنني معاودة النوم؟
لكنّي اضطررتُ إلى سحب نفسي نحو النافذة، وطالما كان يبدو لي الفجر وقتاً للصلاة لا لغيرها، حيث يحدث أن يتطابق سكون الفجر مع سكون الروح، وهذا التطابق التام طالما أسميته صلاة، حتى لو أنني لم ألهج بشيء يدلّ على ديني أو معتقدي، ولم أختر الإله الذي يدل عليّ، لكنها صلاة، بوصفها ارتباطاً حتميّاً بالسماء، وليس لأكثر وأعمق من هذا التفسير.
شاهدت نفسي بين تلال الخراب في غزّة، وإن لم يشر أحد إلى أنها غزّة
لكن حتى تلك الصلاة البسيطة تعذّرت بفعل الكابوس الذي حزَّ رقبتي بسكين أعمى، لقد شاهدت نفسي بين تلال الخراب في غزّة، وإن لم يشر أحد إلى أن ذلك المكان الذي كنت فيه هو غزّة بالفعل. لكني في قرارة نفسي أصف كلّ تلال الخراب المحاطة بعيون النار غزّة، لذا وبينما كنتُ أقود دراجتي بين تلالها، وأخي الذي بدأ كبيراً في الرحلة، وصغر حتى صار طفلاً، في تلك اللحظة التي رأيته فيها يتجمّد، ويَزرقُّ، فكرت في الوهلة الأولى أنّه نائم، لكنّه في ما بعد يبدو لأي مشاهد أنه يختنق.
وبردّة فعلٍ مني، كانت سريعة للحد الذي لا يمكن أن تكون تلك السرعة منطبقة مع سرعتنا الحقيقية في الواقع، ويحدث ذلك في الأحلام والكوابيس حصراً، أنزلته من الدراجة الهوائية، ورحت أضرب على ظهره، ولم أجهد كثيراً في ذلك، حتى خرج من فم أخي، خمس قطع مكعبة من اللحم الأحمر، وكانت "rare" (نِيْئة). لم تكن كاملة الاستواء لتبدو لحم بقر، ولم تبدُ أنها لحم بشري، كانت بهذا القدر من الاستواء الذي يجعلك تشكك في مصدره.
تناثرت القطع في الهواء، ولصقت إحداها في رقبتي، في الزاوية التي ترتفع عن نهاية عظم الترقوة نحو الكتف، وكأن يديَّ المشغولتين بشيء ما تعذر عليهما تحسّس مكان اللحم، فحاولت بعيني أن ألتقط الزاوية الميّتة التي ترتكز فيها قطعة اللحم، غير أني لم أر شيئاً، لكني تحسّست لزوجتها بذقني، وحينها شعرت أنني ملتاث باللزوجة في جسدي وداخل روحي.
وصحوت على ذلك الكابوس، وصرنا نعرف مكان حزّ الكابوس لرقبتي- في الزاوية التي ترتفع عن نهاية عظم الترقوة نحو الكتف- وصرنا نعرف لحم من هذا، ومن قطّعه إلى تلك القطع الصغيرة، وصرت أعرف أن صلاتي غير مقبولة ما دمت ملتاثاً بتلك اللزوجة، وصرت أعرف لأول مرة أنني لست إنساناً.
* كاتب من العراق