أ
الأمواج البيضاء تأتي على مهلٍ،
تُومئ برؤوسها إلى مزارع زيتون مُشبعٍ بالطمأنينة
دحرجة إثر دحرجة،
تقترب من رمل الشطّ،
تُهدهد قلق الريح الغربية،
تلسع خاصرة الشطّ،
حتى إذا تلامست أكتافها، تُحلّق في الفضاء نوارس ويمام.
لخمسين يوماً وليلة، موجات البحر،
تعيد إلى المدينة المهشّمة، أنفاس الأطفال الذين أخذهم الغياب.
ب
هذه نهاية السَّهل، لكن ليست نهاية الوجع!
مُرْ إنْ استطعتَ، بقدمين راسختين، أو
طِرْ فلا يراك العسسُ ولا المسيّرات.
هذا حجرٌ يسكن في أوّل الدرب، انظُرْ إليه، ماذا ترى؟
كيف يُنظرُ إلى حجر؟!
العينُ ليست وسيلتك، بل القلب.
هذه التفاتة الحفيدة،
وهذا رجل معمّم، يركض نحوها بيدين ممدودتين.
ارتشفْ عبقَ السكينة من ردائه، وأغمضْ عينيك مليّاً.
كأنّ السُّدّ ثقبته يدا نبي!
ت
لسنواتٍ أحاول تشريح الوجع، أحاول شقّه نصفين
فلا أجدُ إلّا أنيناً حزيناً، بألسنة كثيرة،
وأوقاتاً لا شمس فيها ولا قمر.
الزمن يجعل الجراح أكبر وأعمق وأوجع.
الوجع قاربُ المظلومين يأخذهم من ساحل الهشاشة إلى ساحلين:
ساحل ذلّة،
أو ساحل عزّة.
ث
لو كان الوجود مياسم زهرة زعفران،
لكان وجوداً خفيفاً، بحُمرة الغروب المهيبة
لكن أين سيكون مكان الوجع فيه، ومكان الموت؟
على جدار بيتٍ دمّرته مدافع كراهية،
على كتف امرأة تحاول إخفاء عريّها،
على أيدٍ ممدودة من تحت الركام تريد أن تحيا،
على شفاهٍ نسيت كيف تبتسم، وكيف تُغنّي،
على ربوة كانت يوماً بيتاً لحصان الحقل،
على كاميرات كثيرة تلتقط كلّ شيء ولا شيء،
على صراطٍ لم يعد مستقيماً،
وعلى جهنّم التي تقول: هل من مزيد!
ج
لطخة لون على هذا الخدِّ الشاحب،
كلمة كثيفةٌ على هذا الساق المكسور،
لا يجمعان ما تفرّق من وحشي البراري.
لن ترى من عين المِسبار كيف تتهشّم المدينة وكيف يُقتل الأطفال.
الجرائم في مجلس الأمن،
صغيرة إذا ما رغبوا
وكبيرة إذا ما رغبوا.
خزانتهم تمتلئ بالأوراق والأصفاد، وصفوف العبارات الوهّاجة!
ح
(إلى نوفل نيّوف)
سيصعد الثورُ الهضبة،
لكنَّ الأحمال ثقيلة،
وكلّ هذه السنين أخذت ما أخذت
من هذا الجسد الصبور!
ما يجمعنا في الغرفة،
نهرٌ أخضر
ومرآةٌ مصقولة بإتقان!
ستلامس قدَما الثورِ حافّة الماء الفوّار
سيقف العجوز محنيَّ الظهر قريباً من الغياب.
تمعّنْ في الصورة، ماذا ترى؟
امرأةً بحجم بلاد
في رحمها ستّة أجنّة
من كلّ نهدٍ يسيل نهر رقراق.
وماذا أيضاً؟
أرى رجلاً يمشي غير بعيدٍ منها،
في يده قطفة نعناع
من فمه تسيل قصائد خضراء.
رفرِفْ عالياً يا ذيل الطاووس
رفرِفي عالياً يا سحابة العمر!
إلى حلبة الرقص
يدخل الأطفال
تدخل الفساتين الملوّنة المزركشة
تدخل الضحكات الطويلة والقصيرة
تدخل المعزة الرماديّة
تدخل السماء
تدخل الأرض
ويدخل ضارب الدفوف.
خ
ينسلُّ الأبيض من سطح الصورة عريان،
أنظرُ إليه من وراء النافذة وتنظرُ إليه سحب مبعثرة.
ليلٌ طويل موحشٌ.
عسَسٌ وناقلات جنودٍ ومدافع.
سهول وهضاب ودخان كثيف.
غياب يلتهمه غياب!
كيف تنام المدينة
الأطفال القتلى يدقّون على الأبواب
ولا أبواب!
بعض المدن تفيض بالموتى
بعض المدن تفيض بالكراهية.
لكن هذه المدينة
مزقة جناح تركتها الفجيعة ليوم القيامة!
د
(إلى إبراهيم حميدان)
أخيراً فتحتْ سجادتكَ أبوابها،
أطلقت سراح طيور الغابة.
ألم تقل:
"سيأتي يومٌ تسمعون فيه طرقات الغريب على الباب،
وترون القمر شارداً في البرّية تتبعه الهداهد وجداول الماء.
ماذا تفعل الآن يا إبراهيم؟
أجعل المدى الشاسع بيتي".
لقد رحلَ الفتى
دوّرَ في كفّه حبّات مطر من طرابلس
وفي عروة سترته علّقَ سنبلة...
ذ
أن تحملي البحر على ظهركِ، يا شجرة،
عبءٌ لا يقدر عليه أحدٌ غيرك.
أن تنفخ من على سبّابة الوقت غبار النسيان، يا شاعرُ،
عبءٌ لا يقدر عليه أحدٌ غيرك.
أن تدحرج الشجن من قفطان البذرة، يا خرّاز،
عبءٌ لا يقدر عليه أحدٌ غيرك.
أن تقصف الريح وتضعها في سرةّ الأرض، يا ثعبان،
عبءٌ لا يقدر عليه أحدٌ غيرك.
أن تعصر من عريشة العنب نبيذ الجنّة، يا سقّاء،
عبءٌ لا يقدر عليه أحدٌ غيرك.
أن تترك أبواب القلوب مشرعة، يا بوّاب،
عبءٌ لا يقدر عليه أحدٌ غيرك.
ر
تعالي نضع رقعة الشطرنج بيننا،
أطلقي سراح حصانك في سهولي.
أمّا أنا سأفكّرُ مثل ملكٍ مليّاً،
كيف أقتلُ الجنود ولا أموت.
ز
جاء الطائرُ من النافذة المشرعة أبداً،
التفتَ يميناً وشمالاً، ثمّ حلّقَ في الجوّ.
حين أفقتُ من النومِ،
كان واقفاً على صدري!
س
لكلّ امرأة قنديل.
لكلّ ليلٍ قنديل.
لكلّ مدينة قنديل.
لكن!
لا قنديل لبومة الحقول الشهباء.
لا قنديل للغريب الحزين.
ش
الوعلُ البرّي:
أخذَ العروس
خلخال العروس
وتنهيدة الحجر.
ص
إلى أين يمتدّ جذر البندقية؟
إلى بيت كراهية
أو
إلى قلب جبان.
ض
أيّ عذاب
أيّ ألم
أيّ ذلّ
أيّ توحّش
هذا الذي يُحيط بنا يا الله؟!
ط
لك أن تضحك علينا الآن يا صديقي،
وأنت هناك في الضفّة الأُخرى من نهر الليثي!
لم تعد في حاجة للوقوف في الطوابير،
ولا لكتم العبرة في صدرك على وطن أحببته.
اركبْ فرسكَ، دعها تنساب مثل الريح في سهول الخُمس،
أو توقّف في مقهى صغير في جامع الصقع.
قلتَ لي مرّة:
"لا تفزع من الريح يا عاشور!
لن تطوّح أشياءك في البيداء
حسبها أن تزيح من على قلبكَ الغبار قليلاً".
ظ
أيّهما أنتَ على يمين القبر؟
أنا طائر القصبي
أنا عود الريحان.
أنا كأس الشاي
أنا الذي على يمين القبر.
ع
"لقد ركضت الخيل إلى الحمادة الحمراء".
قال ذلك الفارس وهو يمتطي فرسه البيضاء،
مثلما قالت النسوة الصاعدات التلّة في أوّل الكاف.
"على العاصفة أن تهدأ قبل حلول الليل"،
قال العجوز وهو يشرب شاي الشيح بعد صلاة العصر.
لم يتوقّف الرجل الغريب عن طحن القمح الشحيح،
ولم تتوقّف العروس عن قراءة رسالة حبيبها القديم.
أغرقت الأمطار الخيام والنيران والبيوت المهدّمة!
غ
شجرة صنوبر، تركتها في طفولة مبكّرة،
كنتُ أراها تمدّ خيوطاً طويلة، رقيقةً،
إلى السماء البعيدة.
لم يكن ظلّها يكبر إلّا عندما تصير الشمس حمراء،
في الربيع، تأتي إليها طيور الفقّاقي ذوات الذيول المستديرة الجميلة،
في ليالي الشتاء الباردة، تأتي إليها سلاحف من ترهونة، صغيرة بأفواه مفتوحة.
تحتها نبتتْ أناشيد أطفال المدارس، وارتجفتْ قلوب العاشقين.
على أغصانها العالية، علّقت النسوة،
حبال التين القادمة من غريان، وأحجبة المحبّة.
ليتَ لي الآن شجرة صنوبر ترعى مخاوف شيخوختي،
تجلس معي نُشاهد كيف تتقوّس الأماني
خلف القمر الراكض صوب شطّ صبراتة!
ف
لا أدري إلى أين ذهبت بومة الحقول الشهباء في هذا الصباح الشتوي!
من مكتبي المُشرِف على بحر صبراتة، عند نهاية الشمال الأفريقي، أسمع صوت الريح، زفيفها الموحش، وأسمع هدير أمواج البحر.
أعرف أنّ قلبي مشدود بخيطٍ رفيعٍ أوّله في غزّة وآخره في غزّة.
أعرف أنّ دولاب الماء دائري مثل بيضة نعامة،
خشبه نعّمتْ ملمسه قطرات ماءٍ أبدي،
وقلبه يصدح بأغاني السهوب الشاسعة.
ق
طوبى للصابرين هناك في مدينة خرّبتها كراهية عمياء!
طوبى لفرح يسرق الوقت من بين أدخنة القنابل ومواقد الطعام!
طوبى لطفولة نضجت ولم تتحطّم!
طوبى لمقاتلين حسبهم أن قالوا لا!
طوبى لغزّة ولأهل غزّة ولحجارة وبحر غزّة!
ك
هل كان على غزّة حمل وِزر وتر التشيلّو الذي انقطع في واشنطن؟!
ل
رائحة الملح تقضي حياتها تبحث عن بيتها وبيتها ليس البحر.
م
لم أعد في حاجة إلى أشياء كثيرة،
حسبي إيماءة هشّة،
تلويحة يد غريبة،
مدى لا يتبدّل،
وحسبي بعدٌ يُشبه القُرب.
ن
في البحر سمكةٌ،
في الفضاء طائرٌ،
في البلاد قتلى بعدد الحجارة.
هـ
لماذا صارت الغيوم البرتقالية نحيلة يا جدّي؟!
هي حزنٌ غمست فيه الشمس أصابعها.
مثلما تفتّتين بأسنانك قطعة بسكويت، يفتّت عدوٌّ حَقود أحلام أطفال في بلاد بعيدة.
لكنّ الأحلام دائماً حلوة يا جدّي!
أجل. وهذا ما يجعل الشمس تتأخّر في الغياب هناك، كي يمدّ الدفء لحافه قليلاً على أجساد ترتجف.
لماذا يكره العدوّ الأطفال يا جدّي؟!
هذا عدوٌّ بلا طفولة، بلا بصيرة، والأشجار لا تنبت في قلبه.
و
الموت أنفاس تتنقّل على الأنامل
كما تتنقّل الحدأة على أشجار الطلح.
أيّ موت تختار يا حامل الكتاب؟
أيّ موت تضعه في خميرة خبزك يا غريق النهر؟
أيّ موتٍ تضعه في رجفة الناي يا صاحب القصب؟
أيّ موتٍ تنهمر به السموات على أرض الحزن العظيم؟
ي
من أين تأتي الكراهية إلى قلب الإنسان؟
من وجود ناقص، ومن لغةٍ محطّمة، ينعكس عليها الليل والنهار.
أيّ شيءٍ هي الصرخة العالية في الكراهية؟
تلك التي تمزّق جسد الكينونة بدأب عظيم.
ماذا تثمر أزهار الكراهية؟
الحزن والألم،
الدهشة والأنين،
الموت والموت...
* شاعر من ليبيا