أنا من هُنا.. أنا من هُناك

12 يوليو 2023
أطفال فلسطينيون يلعبون بالقرب من مخيّم الشاطئ في غزّة (Getty)
+ الخط -

في مدينة غزّة، عام 1956، وُلد خليل وعلى جبينه شمسٌ لن تغادره في ما بعد، سيحملها أينما سار حتى يَقْطُر عرقاً، وسيزداد عطشاً مع مرور الوقت والكِبَر.

وُلد الطفل الذي سترافقه حكايا الجنّ والأشباح، وقصّة القطّ الذي تكلّم بلغة إنسان، والجنّي الذي أطلّ عليه من وراء الباب بلحية وثياب شديدة البياض. وعلى الرغم من تعابير وجه الشيخ الباسمة، إلّا أنّ خليل ارتجَفَ وخبّأ رأسه تحت الوسادة، لأن أشياء كثيرة يستعصي وصفها، ولو ابتسمت، ستُلازمه طيلة حياته، مثل شبح الحرب، والفقد، ورحلة البحث عن الأمكنة.

كان عمر النكبة ثمانية أعوام حين بدأ يومه الأوّل في الحياة، وأدرك من حَرّها أنّها شمسُ اللجوء، وأنّه وُلِد بالمكان الخطأ، ذلك لأنّ مكاناً في الجنّة اسمه يافا كان ينتظر مجيئه، إلّا أنّ الحرب اقتلعت البحر من الخريطة مع أحداث المعارك عام 1948. حينها حاولت عائلته العودة إلى بلد نشأتها في اللّد، إلّا أنّ العصابات الصهيونية المُسلَّحة كمنت لهم واحتجزت شبّان العائلة والمقرّبين داخل مسجد لُفّ بالألغام بِنِيّة تفجيره، ولكنّ مشيئة الله أرادت أن تنشغل القوّة العسكرية بتقدّم إحدى فرق الجيوش العربية في منطقة قريبة، ليهرب جدّه ومَن معه إلى غزّة، ويبدأ مسلسل الهجرة والمعاناة الأبدية.

بعد ستة أعوام من عُمر خليل وعلاقته بالمكان و"أشباحه"، كان عُمر النكبة قد صار 14 عاماً، تُوفّي خلالها جدّه، وقرّر أبوه الانتقال بأُسرته من غزّة إلى بلدة رام الله التي صارت بعد "أوسلو" مدينة، ولم يبرحها طويلاً لينتقل في ما بعد إلى مخيم بلاطة في نابلس، وفوق رأسه شمسٌ ستظلّ تُذكِّره طوال الوقت بأنّه ينتمي إلى البحر، مهما فعل. 

والصحيح أنّها ليست الشمس وحدها التي ظلّت تُلاحقه وتفعل فعلها، بل كانت تتناوب ظروفُ الحياة في تذكيره بأنه في المكان الخطأ.

وقع على عاتقه منذ السابعة من عُمره أن يروي ظمأ العائلة، شاقّاً طريقه بين الخِيام بدَلْوِ ماء فارغٍ نحو عينٍ تبعد عن المخيّم أكثر من كيلومتر، والشمس تبتسم له وهو يتوارى عن حَرّها وعطَشها، إلى أن تصالح معها. كُتب عليه أن يُواجه كلّ شيء ليقتلَ خوفه، مثل الاستماع لقصص الجنِّ من والده ليلاً ومن ثَمّ حثّه على السير في البيت مُظلِماً لطرق باب الحمّام، بل والسير إلى مقبرة المخيم في ليلٍ حالك، كتجاوُبٍ لاواعٍ للتذكير بقساوة الحرب والعيش والحياة.


■ ■ ■


يكبر خليل ويجدُ بالثقافة ملاذاً له، سيُكافح، ويُكمل دراسته ويُعيل عائلته، ويتزوَّج، ومن مكان إلى مكان، يستقرّ أخيراً في بيت ساحور، ومعه ثلاثة أطفال يزدادون رابعاً، ومكتبة طُوّبت بجدارٍ من الكتب الفقهية والفلسفية والتاريخية والأدبية، وكثير من مراجع التمريض.

في عام 1994، يحمل خليل طفله الخامس حديث الولادة، يُكبّر في أُذنه. وهُنا كنتُ أتعرّف إلى ملامح الشخص الذي سيكون لي في ما بعد الدليل في رحلتنا الكبيرة، وسأحمل اسم سائد. كان أوّل صوتٍ أسمعُه بعد الطبيب الذي انتشلني من قدمي وهو يُريني الحياة بالمقلوب. هُنا التقينا، في هذا الظرف الزمني، وكانتِ الحياة كفيلة لتُريني جِراحَه على طريقتها وفي ارتطامنا اليومي.

في بيت ساحور كبُرتُ وسْط حارة مسيحية، وعرفت من الجيران لقب أبي: النابلسي أبو إبراهيم. تعلّمتُ منذ الصغر أنّنا لسنا "سواحرة" أو "تلاحمة"، نحن من مخيم بلاطة في نابلس، وحين كُنّا نذهب إلى نابلس كُنّا نُوصّف بـ"السواحرة" أو "التلاحمة". سألتُ أخي ذات مرّةٍ عن مكان انتمائنا الذي يجب أن يكون حين نُسأَل، فألهمتْه اللحظة بأن يقول لي وهو في حالة توتّر: "قول من يافا وفِك عنّي"، يافا التي لجأنا منها لمّا صار التهجير.

كبرتُ وعرفتُ أبي يخرجُ مع طلوع الشمس يطبّب النّاس بمستشفى في القُدس، ويعود قبل اختباء الشمس خلف الجبل. وكان لديه ارتباط غريب بعالَم البِحار، لدرجة أنه كان يمضي ثلاث ساعات مُتمسمراً أمام التلفاز يُشاهد طُرق صناعة طُعْم السمك والصيد بالصنّارة والشِباك. ذات مرّة دخل إلى المنزل بصنّارة، يومها ضحكنا وسألناه عن حاجته لها، فأجاب: "أنا بحب صيد السمك... عشان لمّا أروح عالبحر". البحر الذي عشتُ حياتي وقاربتُ الثلاثين من عمري ولم أرَ زُرقته حتّى يومنا هذا، على عكس أبي الذي استطاع زيارته مرّات عدّة اصطحب بواحدة منها صنّارته، والطريف أنّه صار يستخدمها لالتقاط قطع الملابس التي كانت تسقط من طابقنا العلوي على "كرميد" الجيران، وكنت أغمز أمي وأقول لها: "صاد سمكة"، فتضحك.


■ ■ ■


نبذة بسيطة من حوار مع صديق: 

- إنتا من وين؟
- من بيت لحم
لهجتك بتقولش هيك.
- أيوا، مهو لاجئين من يافا
- يعني لجأتوا عبيت لحم؟
- لا... خلص... قصّة طويلة.


■ ■ ■


في سنوات الجامعة دخلتُ إلى عالَمٍ مُفَتَّت، لم أنتمِ إلى أيّ فصيل سياسي، إيماناً منّي بأنّي أستطيع أن أتّفق وأختلف مع كلّ توجُّه بناءً على قاعدة المنطق والمبادئ دون الانصهار مع أحد. لكنّ "التقسيمات" التي خلّفتها السياسة في "الضفّة الغربية" فرضت واقعاً "مناطقياً" مُجزّأً إلى مناطق (شمال، جنوب، وسط)، كالذي شُغل عليه إسرائيلياً ليكون داخل السجون. 

وهُنا أذكر قصّة مُضحكةً حصلت خلال انتخابات الطَّلبة للترشُّح إلى نادي "دائرة الإعلام" في "جامعة القدس" برام الله؛ حينها استقطبني الأصدقاء في "حركة فتح" من "جنوب الضفّة" لأكون معهم في "معركتهم" الانتخابية، لأنّي أعيش في بيت لحم، في حين استقطبني الأصدقاء من "شمال الضفّة"، الذين يعلمون مكان إقامة عائلتي "الكبيرة" في نابلس، لأكون معهم ضدّ الطرف الأوّل، ولأنّ أغلب أصدقائي من اليسار، فقد كنت محسوباً عليهم في ما بينهم، ولأنّ الأصدقاء من ذوي التوجّه الإسلامي الذين شاركتهم بعض النقاشات، توقّعوا دعمي. ويوم الانتخابات كُنتُ بين اثنتين؛ إمّا أن أذهب إلى دوام إذاعة بيت لحم لأجلب "يوميّتي" التي كنت أُساهم بها في مصروفي الجامعي ولو بشكل يسير، أو أدفع مصروفاً بالمقدار نفسه في مواصلاتٍ كي أُدلي بصوتي بحثاً عن جماعة أنتمي إليها، لا عن حقّ أنتزعه. وهكذا ذهبتُ إلى العمل.

■ ■ ■


ظلّ أبي يجلس على بلكونة المَنزل المُطلّة على الشرق في الصباح، وينتقل إلى البلكونة الأُخرى المُطلّة على الغرب في المساء، يستقبل شمساً ويودّعها. كان يناديني لمشاركته القهوة في الجلوس تحت سطوع الشمس مُستمتعاً، وكنتُ أعجز عن مجاراته، يُودّع شمساً ويستقبلها، إلى أن رحلَ قمراً.

كانت وصيّته أن يُدفَن في مقبرة الشهداء بمخيم بلاطة إلى جوار أبيه وأُمّه، في المخيّم، المكان الذي لجأ إليه ينتظر يوم عودته الموعود.

"ومَن يَرفَع عَصا التِّرحالِ مهمَا طَالَ يُنزِلها" (الشاعر الإيراني حافظ الشيرازي؛ 1326 – 1390).


■ ■ ■


على البلكونة ذاتها، بعد عامين، أجلسُ شارد الذهن بسماءٍ تُمزّقها مُستوطنة "أبو غنيم". يسألني ابن أخي بدون مقدّمات: 
- عمّو، إحنا من وين؟
رددتُ بضحكة مُحتارة: ليش بتسأل؟
وباشر بِقَوْلٍ أقرب إلى الشكوى:
- سألني ابن صفّي ومعرفتش شو أقلّه، يعني إحنا ساكنين برام الله، بس دار سيدو خليل ساكنين ببيت لحم، وعيلتكم ساكنين بنابلس، وأصلنا من يافا، ووو... مش عارف، إحنا من وين؟
قلّبت يدي من تحت لفوق، وبدوت أكثر حيرةً، وسألته: طيّب إنت شو بتقول؟
فأجاب: إحنا من الجنّة!


* كاتب وصانع بودكاست من فلسطين

 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون