أمين معلوف هو أيضاً مؤرٌّخ كآدم بطل "التائهون". كونه روائياً لا يبدّل ذلك. كتابه الأول كان تاريخاً "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، ورواياته يصحُّ القول إنّها في غالبيتها روايات تاريخية. لا يمكننا لذلك أن نفصّل التاريخ عن الرواية في "ليون الأفريقي" و"سمرقند" و"صخرة طانيوس". بل يمكننا أن نقوم بمحاكمة تاريخية لهذه الروايات. ثم إنّ هذه الروايات التي يُشكّل التعدُّد الثقافي والمصالحة بين الشرق والغرب محاورها الدائمة هي أيضاً لا تنفصل عن لبنان كمشروع تاريخي.
روايات أمين معلوف تمتُّ إلى لبنان من قريب، بل هي من بعيد مطالعته الروائية لـ الحرب الأهلية اللبنانية وجوابه عنها. يمكن أن نفترض ذلك، لكن رواية "التائهون" لا تمتُّ فقط إليها، بل تتناولها مباشرة. يمكننا هكذا أن نقول إنها رواية عن الحرب اللبنانية، بل هي استطراد روائي وفكري أيضاً لما تثيره هذه الحرب من مفارقات ومسائل.
الرواية تبدأ من الحرب التي حملت شلّة الأصدقاء، الذين جمعتهم الرفقة والأفكار والمبادئ، على أن يتفرقوا. هذه الشلّة تُمثِّل لبنان بتعدُّده الإثني والثقافي، كما تُمثّل النخبة اللبنانية عشية الحرب. هكذا لا نجد بينها المسلم والمسيحي فحسب، بل نجد أيضاً اليهودي. الشلّة، كما كان الأمر آنذاك، تُمثّل وسطاً يسارياً في الغالب. يسار مُتمغرب متعدّد الثقافات واللغات يواجه الحرب بمبادرات مختلفة. الغالبية تهاجر ولكن إلى بلدان شتّى: فرنسا والولايات المتّحدة والبرازيل. لكن هناك من يبقى في لبنان، والسجال الأول هو تماماً حول البقاء والهجرة. من هاجروا لم يتورّطوا في الحرب، وحافظوا لذلك أخلاقياً على استقامة وانسجام لم يستطع الباقون الحفاظ عليهما.
مثل قصّة لبنان الذي يراوح بين الانتحار والخطف
هكذا كان أمر مراد الذي تورّط لدرجة الفساد والانتفاع من الحرب، لكن الحرب أيضاً حملت بلال على المشاركة فيها وخسارة حياته بسببها. لكل من الرفقة قصّته وبعض هذه القصص تحمل في رمزيتها ما يطل على الواقع اللبناني قبيل الحرب وأثناءها. قصّة ألبير مثلاً من هذا القبيل، ألبير الذي كان في سبيله إلى الانتحار حينما خطفه رجلٌ لقاء خطف ابنه. الخطف يحول دون انتحار ألبير، والأب الذي فُجع بمقتل ابنه المخطوف لا يلبث أن يعفو عن ألبير ويعامله بما يشبه التبنّي. الأمر الذي يصرفه عن الانتحار ليسافر بعدها إلى الولايات المتّحدة حيث نجح وازدهرت حياته. لا نستطيع إلّا أن نرى في قصّة ألبير لبنان الذي يراوح بين الانتحار والخطف، وتبقيه هذه المراوحة حيّاً وأحياناً مزدهراً. ألبير، مثل لبنان، ابنُ مفارقة تاريخية وتناقض، بل وتناقضات تبقيه قائماً، وقد تخدمه أو خدمته إلى حين طويل.
ليست شلّة آدم المؤرّخ في راوية "التائهون" سوى لبنان. إنها لبنان قبيل الحرب حين كان مشروعاً قائماً وفريداً بل واستثنائياً في المنطقة، بقدر ما هو مشروع مستقبلي تستشرفه نخبة متعدّدة الطوائف عريقة، بالدرجة ذاتها في شرقيتها وفي تمغربها، وهي في تنوّعها الطائفي فوق الطوائف. آدم الراوي لا يحمل هذا الاسم عبثاً، إنه الإنسان قبل أن يكون ذا دين أو هوية أو وطن، وكونه مؤرّخاً يعزز هذه الرمزية، ثم إنه يعمل منذ 15 سنة على أتيلا البربري الذي غزا روما حين لم تتقبّله هذه ولم ترض به رومانياً. أتيلا هل هو اللبناني الذي يدافع عن استثنائه واختلافه وسط منطقة متجانسة. لبنان الذي وحده في المحيط لم يقم على أساس إسلامي.
الشلة تتفرّق في أربع قارات، لقد طردتها الحرب إلى هناك، لكن أفرادها سرعان ما يتوطّنون في مهاجرهم، في ما كان المقيمون يتحاربون ولا يتوصلون إلى أن يتعايشوا، هذا وجه آخر للتناقض اللبناني. اللبناني الذي هو الغريب والذي لا ينجح إلّا حين يكون هذا الغريب. لم يعد آدم إلى لبنان إلا بعد 15 عاماً أمضاها وهو يحاول، بدون نجاح، أن ينهي دراسته عن أتيلا الذي يقول عنه في موضع من الرواية "أنا أتيلا".
إذا كان آدم أتيلا، فإن دراسته مثلها مثل المشروع اللبناني لا تصل إلى خاتمة، ومثله تبقى مجرّد وعد. يعود آدم إلى لبنان حين يدعوه مراد المحتضر، مراد الخائن، ولن يلحقه في الحياة فقد رحل قبل وصوله. لن تكون هذه العودة إلى لبنان سوى موعد مع الموت، إنها توديع للبلد ونفي له. لن يكون مشروع لقاء أفراد الشلّة من جديد ومسارعتهم إلى الموافقة عليه سوى مؤتمر وطني. لكنه لن يكون سوى استكمال فولكلوري لمشروع مطويّ بات احتفالاً ظاهرياً.
انفصل رامز ورمزي اللذان لا يحملان فقط اسماً واحداً، وإنما تزوّجا امرأتين بذات الاسم، "دنيا"، مع ذلك فهما من دينين مختلفين، إسلام ومسيحية. لقد انفصلا ولم يعد لبنان سوى هذا الانفصال. إذا كان اللقاء استكمالاً فولكلورياً ومؤتمراً على شاكلة المؤتمرات اللبنانية، التي تغدو أكثر فأكثر استعصاءً لدرجة الاستحالة، مع ذلك فإن هذا اللقاء في المؤتمر الوطني لن يصمد أيضاً. إذا كان أفراد الشلة قد عادوا بخفّة غريبة، وتقريباً بلا سبب، فإن حادث السيارة سيودي باللقاء وببعض أفراده قبل أن يتحقّق. مقابل المشروع الوطني اللبناني لن يكون هناك سوى العبث. لقد تمخّض المشروع الذي هو، كرسالة آدم، عن وعد خائب فحسب، لقد انهار تحت تناقضاته، وها هو لبنان المقيم ولبنان المهاجر يجمعهما الموت.
* شاعر وروائي من لبنان