ألمرية، باب الشرق، تلك المدينة التي أمر عبد الرحمن بن محمد الناصر لدين الله ببنائها في عام 955م، لتكون مرقباً للساحل الجنوبي الشرقي للأندلس وقاعدةً بحرية رئيسية للأسطول الأموي، يبدو أنّها تتحوّل اليوم إلى أرض للتناقضات والقصص المتشابكة أو المفبركة.
فها هي المدينة تُفاجئنا بنسخة جديدة من "ذاكرتها التاريخية" التي توقظ ليس الفضول فحسب، بل الحيرة والتساؤل والشكوك أيضاً، لا سيّما في ظلِّ المبادرة التي قامت بها بلدية المدينة يمينية الحُكم، والتي تجسّدت في وضع لافتات في المدينة العربية القديمة تشير إلى وجود أحياء يهودية رئيسية، دون تقديم أيّ وثيقة تاريخية تؤكّد ذلك. وهو الأمر الذي أثار جدلاً كبيراً، لا سيّما إذا ربطنا الأمر مع ما يحدث من حرب إبادة جماعية على غزّة، وتزوير للأخبار والسرديات في الغرب.
بدأت القصة عندما قرّرت البلدية اليمينية في ألمرية بناءً على طلب من الجالية اليهودية في المدينة و"جمعية سفارد ماجنا" ومنتدى "ألمرية سنترو" بوضع لافتات في مناطق مختلفة من المدينة العربية القديمة كُتب عليها "أحياء يهودية تعود إلى القرنين العاشر والثاني عشر"، عُلّقت في ساحة "القدّيس روكي". كذلك عُلّقت لافتات أخرى كُتب عليها: "أحياء يهودية تعود إلى القرنين الثالث عشر والخامس عشر"، بدءاً من منطقة "ملاجئ الحرب الأهلية"؛ أي ما كان يُعرف تاريخياً باسم "باب بجانة"، وهي بوابة المدينة القديمة الرئيسية الأكثر أهمية وأثرية في ألمرية الأندلسية، وصولاً إلى شارع "خوفيانوس" ومفرق "شارع المحلّات". وقد عُلِّقت اللافتات باللغتين الإسبانية والإنكليزية، وعليها شمعدانات، إضافة إلى شعار مدينة ألمرية، في رسالة موجّهة بشكل رئيسيٍّ إلى سيّاح المدينة، برّرها البعض بأنّها محاولة لجذبهم. لكنّ المدينة ليست بحاجة إلى اختراع سرديات جديدة لا أساس تاريخيّاً أو أركولوجيّاً لها لجذب السيّاح، ففيها من الجاذبية والجمال ما يكفي.
نشر التضليل بين السكّان والسيّاح واختراع تاريخ لم يكن
إنها سردية جديدة يجري تقديمها لنا عن مدينة ألمرية الأندلسية، متعارضة مع ما يُعرف كحقائق ثابتة عن تاريخ المدينة. وفي هذه التحريفية، يريدون إقناعنا أنّ هذه الأحياء يهوديّة، سكنها اليهود خلال القرنين الثالث عشر والخامس عشر، ولكنّهم، لا يقدّمون أيّ وثيقة أو مستند تاريخي يوثّق صحة ما يدّعونه. إضافة إلى ذلك، فقد ترافق الأمر مع نشر كتاب حمل عنوان "أحياء ألمرية اليهودية"، وفيه يشيرون إلى ما يسمونه "احتلال الموحدين للمدينة" عام 1174م، والذي، حسب سرديّتهم، سيؤدّي إلى تدمير هذه الأحياء اليهودية.
ولكن، بالعودة إلى المصادر التاريخية، سنجد مدى التزوير، أو في أفضل الأحوال، الجهل التاريخي، ذلك أنّ ألمرية في تلك الفترة تحديداً سقطت في يد الحملة الصليبية التي قادها ألفونسو السابع، بمساعدة ملك بامبلونا غارسيا راميريز، وأمير أراغون وكونت برشلونة رامون بيرينغير، ولورد مونبلييه ويليام السابع، وفرسان معبد قشتالة وأراغون، ودخلت الجيوش المسيحية المدينة في السابع عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر من عام 1147م، وبقيت مدّة عشر سنوات تحت سيطرة المسيحيّين، إلى أن تمكّن الموحّدون في القرن الثالث عشر من ضمّها إليهم، وستصير المدينة جزءاً من مملكة غرناطة الناصرية، وسيكون أبو العبّاس حاكماً لها، حيث سيحاول إعادة بناء المدينة، لكنّه لن ينجح في ذلك، بسبب موجة الجفاف التي بدأت عام 1227م وأدّت إلى زعزعة استقرار الزراعة والتجارة في المنطقة بشكل خطير.
إضافة إلى هذه المصادر التاريخية الموثّقة عن تاريخ المدنية الرسمي، فإنّ التاريخ الأركولوجي لألمرية يكذّب هذه السردية، ويؤكّد أيضاً أنّ هذه اللافتات ليس لها أساسٌ من الصحّة. فاللافتة التي وُضعت، على سبيل المثال، في ساحة القدّيس روكي، والتي تزعم أنّه حي يهودي يعود إلى القرنين العاشر والثاني عشر، كان رباطاً إسلامياً أطلق عليه في آخر العهد الأندلسي "رباط الوداع"، وكان يمتدّ حتّى خارج أسوار ربض الحوض، والذي ينتهي بالمقبرة التي تحمل الاسم نفسه.
أمّا ادعاءات أنّ هذه المقبرة كانت "يهودية"، فهي واحدة من الأكاذيب التاريخية المتناقلة، والتي تبنّتها بلدية ألمرية دون التحقّق منها. وتذكر النصوص التاريخية الأندلسية أنّ هذه المقبرة كانت إسلامية، وقد دفن فيها على سبيل المثال الفقيه المالكي أبو الوليد الباجي، كذلك تؤكّد المصادر أنَّ العديد من الكتّاب والشخصيات الإسلامية دفنت في تلك المقبرة، وأبرزها الجغرافي الكبير العذري، إضافة إلى الطبيب والأديب ابن خاتمة المريني. ويوثق علم الآثار وجود هذه المقابر الإسلامية المتعدّدة، ولا يذكر وجود أيّ مقبرة يهودية في الأماكن التي ذُكرت.
ما يحدث في ألمرية ليس بعيداً عن حرب الإبادة على غزّة
وبطبيعة الحال، الكلّ يعرف أنّ الأندلس كانت مكاناً متعدّداً عاشت فيه ثلاث ثقافات مختلفة: المسيحية واليهودية والإسلامية، ولا أحد ينكر وجود شخصيات يهودية في المدنية، فقد جرى، على سبيل المثال، توثيق أسماء لتجّار يهود في دفتر حسابات قصبة ألمرية، كذلك كون المدينة كانت مركزاً تجارياً هامّاً لا يلغي احتمال أن يمرّ بها العديد من التجّار اليهود، وهذا أمرّ طبيعي جدّاً. ولكن ما ليس طبيعياً، وما يدخل في باب التزوير والتلاعب والتلفيق التاريخي لأسباب تثير الكثير من التساؤلات، هو الانتقال إلى الحديث عن أحياء يهودية في المدينة العربية، ومن ثمّ الادعاء بأنّ الموحّدين دمّروا هذه الأحياء!
لا شك أنّ اللافتات الموضوعة ليست "تعزيزاً لتاريخ المدينة" كما يزعم كارميلو لوبيز، رئيس الشبكة الثقافية اليهودية "تاربوت سيفاراد"، أو كما تُجاهر إيلوديا أورتيز، رئيسة منتدى "ألمرية سنترو"، واللذان أثبتت التجربة أنّهما لا يتمتّعان بأيّة معرفة تاريخية بالحضارة الأندلسية، فروايتهما فيها تحريف خطير للواقع التاريخي.
ما يتمّ فعله هو نشر التحريف والتضليل لكلّ من سكان ألمرية والسيّاح، بالإضافة إلى محاولة تصديق وإدامة الخيالات التاريخية. وأخطر ما في الأمر هو أنّ بلدية المدينة سارعت إلى تصديق هذه الخدع، وقامت بتثبيت اللافتات التي يحاولون اعتمادها وإدامتها.
وبطبيعة الحال، أثار هذا الأمر سخط العديد من المؤرّخين والمختصّين بالتاريخ الإسلامي، وأبرزهم الكاتب رافائيل دي مارتوس، الذي كان من أوائل الذين تصدّوا لهذه الرواية الكاذبة، عبر كتابة العديد من المقالات التي تكذّب هذه الادعاءات التاريخية، كما قامت "الجمعية الإسبانية للدراسات العربية" بكتابة بيان وجّهته إلى بلدية المدينة تطالب فيها بإزالة اللوحات لأنّها غير صحيحة لا تاريخياً ولا أركولوجياً.
ومهما يكن من أمر، يبدو أنّ هذه التحريفية لها علاقة بالرغبة في تشكيل قصّة تاريخية جديدة، لأنّ ما يحدث في ألمرية ليس استثنائياً، لا سيّما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار حرب الإبادة التي تشنّها "إسرائيل" ضدّ الفلسطينيّين في غزّة، والسردية الصهيونية المنتشرة في الغرب والتي تقول إنّ المسلمين (وبشكل خاص العرب والفلسطينيّون) يكرهون اليهود ويعادون السامية، كما لو أن العرب أنفسهم ليسوا ساميّين مثل اليهود ولم يحتضنوا عبر تاريخهم اليهود حين اضطهدتهم أوروبا. وكأن على الأندلس أيضاً ألا تنجو من السردية الصهيونية عبر جعل الموحّدين (المسلمين) هم من دمّروا أحياء يهودية، لم تكن موجودة أصلاً في ألمرية.