ألمانيا الصامتة.. هل تلاحقها مُقاطعة ثقافية؟

17 يناير 2024
الكاتب والصحافي الألماني دانيال باكس في إطلاق كتاب له عن الإسلاموفوبيا في ألمانيا، 2016
+ الخط -

أثار مقالٌ للكاتب الألماني دانيال باكس، ينتقد فيه بجرأة الموقف الألماني تجاه الحرب على قطاع غزّة، ضجّةً كبيرة. ويبدو أنّ العنوان المُعبّر الذي اختاره الكاتب قد زاد من حدتها. إنه "الصمت الصاخب للألمان" كما سمّاه، وهو تحديداً ما يُجسّده المستشار الألماني أولاف شولتز المتشبّث بفكرة أنّ "إسرائيل" دولةٌ تشترك معها ألمانيا في القيَم؛ ففي خطابه لمناسبة رأس السنة الجديدة، لم ينبس حول غزّة ومأساتها ببنت شفة!

تعدّدت مظاهر هذا الصمت الصاخب في الآونة الأخيرة. لكنّ ألمانيا عُرفت تاريخياً بصمتها، ولا سيما عن المرحلة النازية، وهو صمتٌ امتدّ بعد الحرب العالمية الثانية لفترة طويلة. واليوم، فإنّ خطأ الصمت القديم عن المحرقة النازية يتكرّر من جديد بالصمت عمّا يجري في غزّة، لكنّه هذه المرّة صمتُ تواطُؤ أضحى يُسيطر على مفاصل هذا البلد، الذي أشارت تقارير صحافية إلى أنّ صادرات أسلحته إلى الشريك الإسرائيلي تضاعفت بمقدار عشر مرّات منذ الهجوم على غزّة.

وفي إطار التضامن المطلَق مع هذا الشريك، الذي تشعر ألمانيا تجاهه بـ"المسؤولية"، جرت ولا تزال محاولاتٌ حثيثة لجعل السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر حدثاً ذاكرياً يدلّ على "توحُّش وبربرية الشرق"، على غرار الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001. وهي محاولات باءت بالفشل بسبب الأسابيع الطويلة للقصف الانتقامي، الذي أصبح يُعتبر فعلياً من أكثر العمليات العسكرية دمويةً وتدميريةً في التاريخ الحديث، مُسبّباً استشهاد أكثر من 23 ألف فلسطيني، جرى في ألمانيا الصمت عن ذكرهم وتذكُّرهم، بينما يجري تخليد ذكرى "ضحايا" الطرف الإسرائيلي بصفة رسمية وفي أكثر من مدينة ألمانية.

تذكُّرٌ مؤدلج للهولوكوست يهدف إلى نسيان إبادات أُخرى

ولضمان استمرارية صخب هذا الصمت، أعلن البلد موقفه المُناهض للحراك المُتضامن مع قطاع غزّة منذ اليوم الأوّل من العدوان، وهذا ما يُفسّر خفوت الحراك التضامني في هذا البلد مُقارنةً بزخمه القوي في بلدان أوروبية أُخرى، بل وفي الولايات المتّحدة نفسها. ومن المفيد هنا أن نتذكّر أنّ الصمت هو أيضاً شكل من أشكال التواصل، فهو في هذا السياق رسالة واضحة، مضمونُها أنّه لا يحقّ للمحتجّين حتى المقارنة بين الأحداث الجارية والمحرقة النازية بدعوى أنّ هذه المقارنة تبخيس للمحرقة بوصفها حدثاً متفرّداً. وهذا ما مهّد لممارسات تنتمي إلى ثقافة الإلغاء باسم تذكُّر المحرقة والمسؤولية التاريخية عنها، غير أنّه يبقى تذكُّراً مؤدلَجاً يهدف إلى نسيان ما يُجرى في القطاع، وليس تذكُّراً حقيقيّاً من أجل ضمان عدم تكرار ذاك الألم القديم، الذي تكتوي به غزّة الآن. 

تمثّلت هذه الممارسات في محاولات مكارثية لإسكات الأصوات الاحتجاجية، استهدفت في الغالب نشطاء من غير البيض، ومن السود، وأيضاً من اليهود، بشكل مقصود، ولاسيما فرع حركة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، وأصبح الشغل الشاغل لبعض وسائل الإعلام هو إلقاء اللوم على عرب ومسلمي ألمانيا بما يُعرف بـ"معاداة السامية المستوردة"، بدلاً من التنبيه إلى تجذُّر العنصرية البنيوية وتمدُّد اليمين المتطرّف.

ورغم أنّ قمع الأصوات المتضامنة ليس استثناءً ألمانيّاً، لكن لم يَربط أيُّ بلد غيرَها تحالفاً غير مشروط مع "إسرائيل" من منطلق أنّ هذا نابع من "المصلحة العليا" للبلد، وهو الأمر الذي صار يُعتبر من بين شروط المشاركة في الحياة العامّة بألمانيا، لدرجة أنّ بعض ولاياتها صارت تشترط الاعتراف بـ"إسرائيل" لنَيل الجنسية الألمانية.

رفض لانتهاج مؤسَّسات ألمانيا الثقافية للسياسات المكارثية

ويلخّص دانيل باكس التماهي الحاصل بين الطبقة السياسية ومعظم وسائل الإعلام المؤثّرة في ألمانيا بقوله: "العديد من الصحافيّين في هذا البلد يرون أنفسهم بالأساس حُماة 'المصلحة العليا' للدولة، والمتمثّلة في الدعم المطلق للطرف الإسرائيلي، فهُم يهتمّون أكثر بإدانة آراء مخالفة ومختلفة من أن يُحلّلوا هذا الاصطفاف الألماني. وبدلاً من تقديم المعلومة الصحيحة لقرّائهم، فهُم يقومون بتبشيرهم. ولهذا السبب، لا يفهم الكثيرون في ألمانيا ما يحدث حالياً في غزّة. أو ربما لأنهم لا يرغبون في معرفة الأمور".

انتقلت هذه المكارثية الجديدة أيضاً إلى المجالات الثقافية والأكاديمية، المعتمِدة على الأموال العامّة، مما يفسّر تحوُّلها إلى امتداد للموقف الرسمي، كما برز ذلك في بيان يورغن هابرماس وزملائه، وهذا ما حدا بباكس إلى القول إنّ ألمانيا، بموقفها هذا، تخون قيَمها، وتجعل من نفسها مفتقدةً للمصداقية، وتنعزل بهذا عن بقية العالَم، وهو انعزال عمّقه طلب جنوب أفريقيا لدى "محكمة العدل الدولية" إقامة دعوى ضدّ "إسرائيل" بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في القطاع. وهنا لم تتوان وسائل إعلام ألمانية بنعت جنوب أفريقيا بأنّها "تكنّ حقداً دفيناً لإسرائيل"، بل اعتبرت محكمةَ العدل الدولية، حتى قبل أن تُعلن عن حُكمها، "أداةً في يد حكومة فاسدة"!

يختتم باكس مقاله بالقول: "يرغب الألمان في أن يعتقدوا أنّهم تعلّموا فعلياً من ماضيهم. لكنّ بقية العالَم تسمع صمتهم الصاخب وترى تجاهلهم المقصود. لذا لم تعُد تأخذ سياسيّين ألمانيّين على محمل الجدّ حين يتحدّثون عن حقوق الإنسان. وكلُّ هذا له عواقب".

وعلى الرغم من أن باكس لم يُشِر إلى أمثلة محتملة عن "ثمار" النموذج المكارثي الذي انتُهج في ألمانيا، لكن يبدو أنّ الحراك الاحتجاجي في ألمانيا قد بدأ يتحوّل من طبيعته التضامنية ويتّخذ ملامح حركة مقاطعة، وهذا ما يمكن ملاحظة بوادره مع بداية سنة 2024، حيث انتشرت دعوة للمشتغلين في مجال الثقافة من كلّ أنحاء العالم إلى الإضراب الثقافي والأكاديمي عن التعامل مع المؤسَّسات الثقافية الألمانية، رفضاً لانتهاج "المؤسَّسات الثقافية الألمانية للسياسات المكارثية التي تقمع حرية التعبير، وتحديداً التعبير عن التضامن مع القضية الفلسطينية"، كما ورد في بيان هذه الدعوة، التي تحمل اسم Strike Germany، وتُعدّ، إلى حدّ الساعة، الروائيةُ الفرنسية الحائزة على "جائزة نوبل للأدب" سنة 2022، آني إرنو، من أبرز الموقّعين عليه. فهل يُفضي الحراك التضامني مع غزّة إلى مقاطعة ثقافية تتهدّد ألمانيا الصامتة؟ 


* باحث مغربي مقيم في ألمانيا

المساهمون