أكتوبر.. خريف خلّاق لا يخاف الحياة

19 أكتوبر 2024
أُمّ فلسطينية تقف على شرفة مدرسة دمّرها العدوان، غزة، 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يُعتبر شهر أكتوبر رمزًا للإبداع والفن، حيث تتناغم ألوان الطبيعة وروائحها لتخلق سيمفونية تعبر عن تجدد الحياة في الخريف.
- يحمل أكتوبر ذكريات شخصية وسياسية، منها فقدان الكاتبة لوالدها وولادة أحفادها، بالإضافة إلى أحداث تاريخية مثل الثورة البلشفية وانتصار حرب 1973.
- في أكتوبر 2023، تصاعد العنف في غزة، مما حول الخريف إلى موسم من الألم، معبرًا عن الصراع المستمر بين الحياة والموت وسعي الإنسانية للسلام.

شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر في مخيّلتي الشعرية شهرُ تشكيلٍ وفنٍّ وإبداع يمدّ ريشته الملوّنة ويرسم على أوراق الأشجار حروف موسيقى وهديل حمام وإيقاع. يصوغ لهامات أشجار الأرض وخصورها وأغصانها. أجملُ حليّ النساء من مشتقّات الذهب والنحاس، يلبسها أثواباً وفساتين وقمصان حرير طائرة في الهواء من ألوان أجنحة الكناري وعصافير الجنّة بلونها الناري اللهاب.

يسكب على تراب الأرض أرومة البهارات الغجرية القارية السحيقة، يصبغها بلون اشتعالات القهوة والكاكاو وبمسحوق القرفة والكركم والقرنفل والفلفل الحار، ويمازج بينها وبين تدرّجات عنفوان الألوان الحرّاقة، من الأصفر الكهرماني إلى البرتقالي اليقطيني، دون التوقّف عند تعاشق اللون الأحمر والمرجاني في زهر الزعفران. ليكتب أكتوبر عند لحظة منتصف الخريف واحدةً من أعمق وأشفّ قصائد التاريخ صخباً في التعبير عن سيمفونية التقصّف والتذرّي، عندما تصير سرّاً من أسرار انبثاق الحياة في عروق الوجود من جديد.

تلك القصيدة المكتوبة بسائل الشمس العسلي وبرائحة لوعة الوداع المخبّأة في توجّس أن تطوي ريح الخريف بالخطأ هذه اللوحة الحيوية الصارخة وتفتح على صفحة الشتاء بعتمتها وصمتها الطويل ولونها الفضّي الممعن في العتمة. لكن، بالمقابل، كان لأكتوبر من التاريخ الميلادي دائماً في تقويم حياتي مكانة مُلتبسة، سواء على صعيد شخصي، سياسي، ثقافي أو إنساني عامّ، بحيث أستطيع العثور في تقويم هذا الشهر على وجه التحديد من موسم الخريف الموجع المُجدّد على عدد من المواقف التي عشتُ خلالها تجارب وجدانية، بعضها جارفٌ وبعضها جارح أو لا يخلو من أفراح مختلسة، كاختلاجات الأرواح في مهبّ الخريف.

كأنّ رياح الاحتلال سطت على رياح الخريف فحوّلتها إلى فحيح يلتفّ على أعناق المدنيّين

فمع أوّل تباشير الخريف بجماله الخلّاب، تعرّضتُ في مطلع شبابي لتجربةٍ خلعت حجرات قلبي وتركت جوارحي عارية في وجه ريح عاتية لم أتوقّعها في تلك اللحظة من عمري. فجأة توفّي أبي، رحمه الله، بعمر الخمسين. هكذا دون مقدّمات. لم يكن والدي وحسب، بل كان صديقي ومعلّمي وحبّي الأوّل وأفقي الأخير وكتاب مستقبلي الذي أقرأ في ضوء عينيه وحنان يديه وصمته المعبّر العميق عن معنى الحياة.

في أكتوبر مفارقة علاقة التعالق المدهش والغامض بين الموت والحياة. وُلد ثلاثةٌ من أحفادي في تواريخ مُتقاربة من تاريخ فقدي لأبي: مشاري وعبد الرحمن ومحمّد. وقد تفضّل الله بجبر كسر قلبي على فراق والدي المُبكِّر، وإن بعد عمر من تلك التجربة.

في أكتوبر أيضاً مررتُ بتجارب سياسية كبرى، قراءةً أو معايشةً، تقاسمتُ بعضها مع جيلي، وبعضها مع عدد من الأجيال. ففي أكتوبر سجّلت الثورة البلشفية انتصارها النهائي على التاريخ القيصري الروسي والإقطاعي، حيث اعُتبرت تلك الثورة في أوجها رمزاً لحلم الفقراء الضائع بالعدل والمساواة. ولم تُنسٍ تلك اللحظة العالم ثمالة الأثمان الباهظة والمآلات الفاجعة التي انتهت إليها تلك الثورة، مع أنّها كانت الأقوى في تاريخ القرن العشرين. وقد ترتّب عليها تقسيم العالم إلى قطبَين متنافرين من تجاذب القوّة والسيطرة ومحاولة الهيمنة على المجال الجغرافي والمصالحي لكلّ قطب منهما، ممثّلاً بمنتصري الحرب العالمية الأُولى: الاتحاد السوفييتي والولايات المتّحدة.

وفي السادس من أكتوبر سجّلت حرب 1973 أوّل انتصارٍ عسكري عربي على الاحتلال الإسرائيلي الصهيوني الاستيطاني لأرض فلسطين، وهزّ سلاح النفط العربي الذي سخّرته المملكة العربية السعودية ودول الخليج، ليكون في خدمة المواجهة العسكرية المنطلقة من أرض مصر، عرشَ إمبراطورية أميركا والغرب، وجعلهما يعيدان حسابتهما في منطلقات التبعية التي كانا يظنّان أنّها أمر مفروغ منه في علاقة العرب بمشروع الهيمنة العسكرية والاقتصادية والسياسية التي يفرضونها على العالم العربي.

أمّا في أكتوبر الماضي من 2023 وإلى اليوم، فقد تحوّل فصل الخريف الضاجّ بألوان الحياة من زهو الليموني لرهجة العصفري، إلى خريف صفراوي ذاوٍ مضرّج بشلالات دم الأبرياء من المدنيّين والمسالمين والعزّل المحشورين بين أنياب وحش الاحتلال الصهيوني على أرض غزّة. وكأنّه كان على مستشفيات غزّة، ومدارسها، وبيوتها، وشرفاتها، وأرواح أطفالها، وممرّات طرقاتها، ومساجدها، وكنائسها، وحجاراتها، وكلِ جناح يرفّ، أو غصن رطب على أرضها، أن يتحوّل إلى لحظة غروبٍ طويلة لا نهاية لاشتعالات الشفق على أفقها، لا في سواد الليل ولا في حلكة النهار.

كأنّ رياح الاحتلال سطت على رياح الخريف، ففرّغتها من الرحمة، ومن الأوكسجين، ومن عنفوان الحياة، وحوّلتها إلى فحيح وشواظ تلتفّ على أعناق المدنيّين، رجالاً ونساء. كأنّ رياح الاحتلال انقضّت على ألوان الخريف وحوّلتها للون رمادٍ كامد، كأحقاده الدفينة على هذه الأرض وأهلها. كأنّ الاحتلال، عن سبق عَمد وتخطيطٍ وإصرار، يريد اقتلاع موسم الخريف من فصول السنة كفصل محمّل بأسباب تجدُّدِ الوجود، ليحوّله إلى تاريخ حدادٍ أبديٍّ على كلّ القيم الإنسانية النبيلة.

فلا طالت أيدي الجبن الآثمة وهي تعمل دون هوادة على تحويل ألوان الخريف الخلّاقة إلى تاريخٍ ملطّخ بدماء الحياة نفسها.


* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون