حاولت ما استطعت أن أتجنب الموازنة بين رواية الكاتبة اللبنانية ديمة عبد الله، "أعشاب ضارّة"، الصادرة بترجمة وافية عن الفرنسية لهيثم الأمين ("دار الآداب"، 2022)، وبين مقابلها الواقعي، بالدرجة التي أعرفه فيها. فأنا أعرف "هي"، ديمة، كما تسمّي نفسها، و"هو"، محمد عبد الله، الشاعر المعروف، وكذلك "هي" حين تشير إلى الأم الروائية المعروفة هدى بركات، و"هو"، أخاها رضا. لم يغب المقابل الواقعي عن الرواية، التي لم تكنْهُ مع ذلك تماماً. لم تكنْهُ، بالدرجة التي بقيت فيها رواية قبل كل شيء، ونموذجاً في البناء الروائي على الواقع.
بهذا المعنى كانت رواية أولاً وأخيراً، ولم يكن مقابلها الواقعي سوى ما تستطيعه رواية، لا تستلهم فقط الواقع، بل تصنعه بشروطها هي، وبمسارها هي، ووجهتها هي. إنها هكذا تعيد خلقه، بل تخلقه تماماً، بحيث تنتمي كلّياً إليه، وتتملّكه بكامله. ذلك لا يُخرجها تماماً من أنه باستمرار أمامها وقبالتها، بل يبدو أن من ميزات الرواية هذه أن تكونه بمقدار ما لا تكونه.
إنها رواية بمقدار ما هي، من بعيد، جزء من سيرة. بل إنها تفعل في السيرة ما يبدو أنه عمق إضافي، ما يبدو أنه خروج بالواقع إلى حيث ما يملك كلاماً، ما يملك شكلاً، أو سرداً، أو حتى غناءً. لنقلْ إنه الواقع وقد اكتمل بحيث بقيت خلاصاته، تَحَقّق بحيث بات إيقاعاً. إنه هكذا ماثل، بقدر ما هو خفي وغائب. مكتمل بحيث ذابت وقائعه، وتحلّلت إلى ما يمكن أن يكون غناءه ونهاياته.
نحن في القراءة لا نعثر إلا على "هو" وعلى "هي"، كأن الأسماء هي من جملة هذه الوقائع الذائبة، التي تحوّلت سياقاً ومساراً ولحناً. مرّة واحدة نعثر فيها على اسم، إنها سندرين، التي يأتي اسمها من خارج واقع صارت له كلمته وله مقامه. الرواية هي "هو" و"هي" وهما يسيلان في صور وإشارات، يهمسان أو يبوحان أو يغنيان. ليست الأسماء وحدها الغائبة، فنحن هنا ما بعدها، بل أيضاً تكاد الرواية تكون بكاملها في ما بعد الأشياء، حتى المرض نفسه، وهو يملك تصويراً يكاد يكون تجسيماً، لكنه يبقى أبعد من اسمه، بل هو ما بعد اسمه. إنه نوع من الموت، بل هو اسمٌ آخر للموت، لكننا، ونحن نراه مقابلنا وأمامنا، لا نلبث أن نبتعد عنه، أن نغدو ما بعده.
لن نجد في روايتها وقائع بذاتها، بل فقط عناوينها وصداها
مع ذلك، فإن ديمة تخلق بالكلام هذا الموت الآخر، هذا الموت المقابل. لن نعثر في رواية ديمة كلها على وقائع بذاتها، إننا نجد فقط عناوينها، جرسها وصداها، إننا هكذا في ما بعدها. ما يتردد في الرواية ليس الوقائع، بل نحن، من العبارة الأولى التي تعرض فيها الرواية لأبيها، نقرأ: "يد المارد شاسعة حتى أن إصبعاً واحداً يكفيني". ستكون هذه اليد، وأيدٍ غيرها، حاضرة دائماً في فصول الرواية المستهلة باستشهاد من إيلوار، هو أيضاً عن الأيدي: "تتحرر يدنا حين نضعها في يد أخرى".
سنجد هكذا مراراً صورة اليد في كلام الراوية وكلام أبيها. ستكون اليد هكذا واقعة دائمة في الرواية. في الفصل الأول أيضاً تقول عن الكبار في السن: "فهم غالباً ما يكون عندهم زروعٌ ويحبّون أن يرووا ذكرياتهم". هذه الزروع، وكذلك صلتها بالذكريات، لن تغيب عن الرواية، ستتردد في فصولها كلها، سواء الزروع والنباتات، وسواء تلك الصلة بالذكريات. لا بد أن لذلك مقابلاً في الواقع، فنحن نفهم من الرواية أن النباتات شاغل الابنة والأب أيضاً. مع ذلك فإن الأيدي والزروع واقعتان متتاليتان في النص. ليس هذا إلا لأنهما استعارتان كُبريان في النص كله. استعارتان لا تعود فيهما الأيدي هي الأيدي، والزروع هي الزروع، خاصة في صلتها الحميمة بالذكريات.
الأيدي والزروع موضوعان قائمان بذاتهما، وسيكون تتبعهما مجالاً للنقد والتحليل الأدبيين، إلّا أننا لا بد أن نلاحظ أنهما، وربما مع غيرهما، أقنومان في النص. يصح أن نجد فيهما ركنين للنص أو صورتين كبريين فيه. هذا ما يردّنا إلى أن ننتبه إلى أن هذا قد يكون ديدن الشعر، وقد يجعلنا نلتفت إلى أن النص كله ــ وهذه الميزة لما بعد الوقائع ــ تقرّب كثيراً من الشعر، بدون أن يكون قصيدة أو قصائد. إنه في بنائه، في مساره، في أسلوبه، يوازي الشعر ويقابله، وينبني بإزائه وعلى مثاله. من هنا لا نستغرب أن تنتهي الرواية بقصيدة. من هنا ننتبه إلى أن ما يستوقفنا في النص، يكاد يكون برمته على هذا القرب من الشعر.
ليست رواية ديمة شعراً، إنها بالطبع رواية قبل كل شيء، لكنها، مع ذلك، تبقى في موازاة الشعر، بل يبدو أنها تخرج من حيث يخرج، وتصدر على نحو ما عنه. ليس في الرواية إنشاء شعري، لكنها في مجملها ذات بناء شعري، إنها رواية بقدر ما هي قصيدة. قد يؤدي ذلك إلى قراءة ثانية لها، إنها قوية كرواية بقدر ما أنّ لها روح قصيدة. قوية كرواية، وبقدر ما تستطيع رواية أن تنبني، في مقابل الشعر وموازاته.
*شاعر وروائي من لبنان