- بدأت علاقتها بفلسطين في 1981، حيث وثقت قصص اللاجئين الفلسطينيين، مما غير مسار حياتها وعملها.
- تنتقد بشدة العدوان الإسرائيلي على غزة وتدعو لتغيير موازين القوى العالمية، مؤكدة على أهمية الدعم الدولي لفلسطين.
ترى الكاتبة والصحافية الإسبانية أنّ الوقوف مع قضية فلسطين يعني الوقوف مع العدالة وهذا يمسّ مصير الإنسانية كلّها. تضيف صاحبةُ "فلسطين خيط الذاكرة"، في لقائها مع "العربي الجديد"، أنّ التخلي عن الشعب الفلسطيني، خصوصاً في ظلّ حرب الإبادة التي يتعرّض لها، يعني السماح للظُّلم وشريعة الغاب بالسيطرة على العالم.
■ في البداية أودُّ أن تخبرينا عن علاقتكِ بفلسطين، من أين أتت وكيف بدأت؟
أوّل تواصُلٍ مع فلسطين كان في عام 1981، عندما سافرت أنا وزوجي بيثنتي سيمون إلى الأردن، بعد تعيينه مُحاضراً للغة الإسبانية في "جامعة اليرموك" بإربد، شمالي البلاد على الحدود مع سورية تقريباً. خلال تلك السنة كنّا على اتصال مباشر مع اللاجئين الفلسطينيّين، وفي كثير من الحالات مع عائلات طلّاب بيثِنتي في الجامعة، والذين لطالما دعونا لتناول الطعام في منازلهم في مخيّم اللاجئين، وأحياناً كنّا ندعوهم إلى منزلنا في منطقة المعلّمين حيث كنا نعيش. خلال تلك الزيارات بدأتُ بإجراء المقابلات، وخاصّة مع كبار السنّ، الذين كنتُ دائماً أبدأ بسؤالي لهم عن قصّة تهجيرهم من فلسطين. وثّقتُ العديد من تلك المقابلات في كتابي "فلسطين خيط الذاكرة"، الذي صدرت طبعته الأُولى عام 2004، وصدرت طبعة جديدة منه قبل أيام قليلة. ومنذ ذلك الوقت بدأتُ بإرسال تقارير عن اللاجئين الفلسطينيين إلى مختلف الصحف والمجلّات الإسبانية. يمكنني القول إنّ تلك التجربة أحدثت تغييراً جذرياً في حياتي ومساري المهني على السواء. لذلك عند عودتي إلى إسبانيا تفرّغتُ بشكل نهائي للصحافة وركّزتُ بشكلٍ خاص على العالم العربي والقضية الفلسطينية.
■ ما موقفك من العدوان الإسرائيلي على غزّة؟
ما تفعله "إسرائيل" في غزّة خطير لدرجة أنّه لم تعد لدينا كلماتٌ لوصفه. إنّها الهمجية في أقصى صورها. أعتقد أنَّ هدف "إسرائيل" هو تصفية القضية الفلسطينية، وهو نوع من "الحلّ النهائي" الذي يعني، بالنسبة لها، إبادة جزء كبير من سكان غزّة، وتهجير الباقي إلى صحراء سيناء. نكبة جديدة أكثر فظاعة من نكبة 1948. والآن، كما كان الحال في السابق، تُرتكب جريمة ضدّ الإنسانية بموافقة وتواطؤ علني من قبل الولايات المتّحدة والدول الغربية. إنَّ الإفلات من العقاب أمر ثابت في الحالة الإسرائيلية، ونحن نعلم أنَّ الإفلات من العقاب يؤدّي إلى إدامة الجريمة وتعزيزها.
عواقب الإبادة لن تطاول سكّان غزّة فحسب، بل ستطاولنا جميعاً
أشعر بحزنٍ شديد بسبب المعاناة التي لا توصف التي يتعرّض لها سكّان غزّة، وثانياً بِسخطٍ شديد، وأودّ أن أقول أيضاً كمواطنة غربيّة إنّي أشعر بخجلٍ شديد أيضاً، ليس فقط من موقف الولايات المتّحدة الأميركية، ولكن من موقف العديد من الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتّحدة وغيرها من الدول. يجب أن أبدي تحفّظاً مفادُه أنَّ حكومة إسبانيا على الأقلّ، إلى جانب أيرلندا وبلجيكا، أظهرت بعض اللباقة في "إدانة" المذبحة التي ترتكبها "إسرائيل" والإعلان عن ذلك، والاختلاف في الموقف عن باقي الدول من الفظائع التي ترتكبها "إسرائيل" في غزّة.
■ ولكن هل تعتقدين أنّ موقف إسبانيا كان على مستوى ما يحدث من حرب إبادة جماعية في غزّة؟
أعتقد أنَّ الموقف الوحيد الذي يمكن أن يكون على مستوى الإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" ضدّ شعب فلسطين هو قطع العلاقات الدبلوماسية معها بشكل كامل، وإلغاء جميع اتفاقيات التعاون التجارية والثقافية والأكاديمية والرياضية، بدءاً من تعليق اتفاقيات التجارة التفضيلية مع الاتحاد الأوروبي. وبالطبع فرض حظر كامل على توريد الأسلحة إلى "إسرائيل". هذا ضروريٌّ وجوهريٌّ بالدرجة الأُولى. لكنّني أُدرك أيضاً اختلال توازن القوى في العالَم الذي نعيش فيه، والقيود التي تواجهها الحكومة الإسبانية كعضو في الاتحاد الأوروبي عندما يتعلّق الأمر بالعمل بتصميم، ولهذا السبب أقدّر الموقف الانتقادي والمتباين الذي حافظت عليه الحكومة الإسبانية، مقارَنةً بأبرز دول الاتحاد الأوروبي.
إفلات الاحتلال من العقاب سيؤدّي إلى إدامة الجريمة
وفي هذا الصدد، فإنّني على ثقة من أنَّ الوعد الذي قدّمه رئيس الحكومة الإسبانية بالاعتراف بدولة فلسطين سيتمّ الوفاء به بسرعة. نحن نعلم أنّ قيمته رمزيّة قبل كل شيء، وأنّه طالما استمر الاحتلال، فإنَّ الواقع سيظلّ فظيعاً بالنسبة للسكّان الفلسطينيّين، لكنّه لا يزال لفتة مهمّة، والرموز مهمّة أيضاً، وشعب فلسطين بحاجة إلى أن يشعر بتضامن ودعم الشعوب الأُخرى له، وأنّ هناك من يقف بجانبه وأنّه ليس وحده.
■ صارت الشعوب الغربية واعية إلى حقيقة أنَّ حكوماتها تتبع سياسة ازدواجية المعايير، خصوصاً بعد أن رأت كيف تعاملت مع الحرب الأوكرانية، وكيف تتعامل الآن مع العدوان الإسرائيلي. برأيك ما سبب هذه الازدواجية؟
ما نسميه بالغرب لم تعد لديه مستعمرات، بل أصبحت لديه نظرة استعمارية وتفكير استعماري، بحيث أنه لا يرى، أو بمعنى أدق لا يهتم برؤية "الآخر"، وخاصّة الآخر الذي كان "خاضعاً له"، إلّا في إطار هذه النظرة. بطريقة ما، إنَّ معاناة امرأة فلسطينية أمام جثمان ابنها لا تؤثّر فينا بالطريقة نفسها التي تؤثّر بها معاناة امرأة أوكرانية بيضاء وأوروبية مثلنا، أو معاناة امرأة إسرائيلية، لأنّ المرأة الإسرائيلية، مثل المرأة الأوكرانية، واحدة منّا، إنّها تُمثّل الغرب، وهي في الواقع، كما عرّفت الحركة الصهيونية نفسها منذ بدايتها "معقل للغرب في قلب الشرق". إنّ ازدواجية المعايير التي تتحكّم في تصرفات العالم الغربي كلّها في علاقته مع الشعوب الأُخرى لها علاقة بالعنصرية الكامنة في تصوّرنا للعالَم، وكذلك دور الغرب في العالَم. لقد اعتدنا، وخاصّة نحن الأوروبيّين، على الاعتقاد بأنّنا مساحة للحرية والديمقراطية والحضارة، ولكن بالنسبة للآخرين، فإن العراق الذي دمّرته القوات الأميركية والبريطانية على سبيل المثال، كان يعني الهمجية. إنّ أكبر مذبحتين في تاريخ البشرية الحديث في الحربين العالميتين الأولى والثانية ارْتُكِبَتا من قبل أوروبا في الأساس، وكانت النازية ظاهرة أوروبية بحتة، ناهيك عن جرائم الاستعمار الفظيعة التي تُعَدّ بمثابة الجرائم التي ارتكبتها النازية، ولكنّها بالكاد حاضرة الآن في الوعي الأوروبي.
■ يضمحل الوجود الأوروبي على الخريطة السياسية في ظلّ اتباعه للقرار الأميركي. برأيك ما هو مستقبل أوروبا إذا استمرت في هذا الانقياد الأعمى وراء السياسة الأميركية؟
أعتقد أنّ أوروبا ترتكب، ومنذ زمنٍ، خطأً فادحاً بتحالفها غير المشروط إلى حدٍّ ما مع الولايات المتّحدة. والأسباب، بطبيعة الحال، جيواستراتيجية، تتعلّق بدور الولايات المتّحدة كحامية لأوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها. لكنَّ العالم تغيّر كثيراً منذ ذلك الحين، ومكانة أوروبا ومصالحها موجودة هنا على هذا الجانب الشرقي من المحيط الأطلسي. ومع ذلك، فإنّنا نشهد تعزيزاً أحمق لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بحثاً عن هزيمة كاملة لروسيا في الحرب الأوكرانية، لكن روسيا لا تزال قوّة عظمى، وهي قوة نووية، وإذا تَمّ استبعاد أنواع المفاوضات كلّها والسعي إلى سحقها، فإنّنا نتجه حتماً نحو حرب ستكون الحرب الكبرى الثالثة، وستكون مرّة أُخرى حرباً أوروبية تخرج منها الولايات المتحدة سالمة وأوروبا مُدمّرة.
يمكن أن نقول شيئاً مماثلاً عن دول الشرق الأوسط؛ تلك المنطقة من العالَم الغارقة في الفوضى منذ غزو العراق، والخاضعة للسياسة الأميركية، إضافة إلى تواطؤ بعض الدول المطلق مع "إسرائيل"، التي تتجاهل قرارات الأمم المتّحدة والشرعية الدولية. كلّ هذا يؤدّي إلى تواصل زعزعة استقرار أوروبا، لأنّ الدول العربية، في نهاية المطاف، هم جيراننا، ونحن نتقاسم القارّة الأوراسية نفسها. الكوارث بحكم تعريفها واسعة النطاق، وليس لها حدود.
■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
قد أكون براغماتية في ما سأقوله، ولكن إذا نظرنا إلى المشهد الدولي، فإنّ صعود اليمين المتطرّف في أوروبا، ووصول دونالد ترامب المحتمل إلى رئاسة الولايات المتّحدة، يجعل من حدوث أي تغيّر في مسار المجتمع الدولي من شأنه أن يجبر "إسرائيل" على الخضوع للشرعية الدولية وقبول أيّ حل آخر غير "اختفاء القضية الفلسطينية" أمراً مستحيلاً. لهذا يحب أن تبقى المقاومة حيّة.
يمرُّ العالم بفترة عصيبة. الحلول في المناطق الساخنة تتطلّب تغييراً في موازين القوى. ضمن هذا المعنى أعتقد أنه من المهمّ ذكر ما فعلته جنوب أفريقيا، التي خطت خطوة إلى الأمام واتّهمت "إسرائيل" أمام العالم كلّه بأنها ترتكب إبادة جماعية. إنّ وضع الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية، حيث ينبغي أن يكون، ليست مجرّد لفتة عابرة، بل خطوة هامّة من أجل التغيير، وهي أيضاً رسالة واضحة جدّاً إلى الدول الغربية التي تتشدّق بالحديث عن الشرعية والديمقراطية، بينما تسمح للهمجية الإسرائيلية بالاستمرار في الشرق الأوسط. أعتقد أنَّ طريق جنوب أفريقيا ليس الوحيد، ولكنّه طريق يجب أن نسلكه، ولا يجوز أن نسمح بإجهاضه بسبب مصالح الولايات المتّحدة و"إسرائيل".
في ما فعلته جنوب أفريقيا إشارة إلى أنّ العالم بدأ يتغيّر، وهو الآن، بلا شك، متعدّد الأقطاب. لم تعد أوروبا والولايات المتّحدة توجّهان مصير شعوب العالم حصرياً، ومن الممكن أن نشهد نهاية هيمنتهما. ولكن في الوقت نفسه، فإنّ الأولوية الآن هي إنقاذ مئات الآلاف من الأشخاص المحاصَرين والمعرّضين للقتل في غزّة. إنّ الأولوية بالنسبة للقضية الفلسطينية هي الاستمرار في الوجود، لأنَّ الوجود في فلسطين يعني المقاومة، وهذه هي بداية التغيير.
■ كمواطنة غربية، ماذا تقولين للشعب الفلسطيني في ظلّ ما يتعرّض له؟
كمواطنة غربية، أوّل ما أريد فعله هو الاعتذار للشعب الفلسطيني، لأنّني أدرك تماماً أنَّ معاناته منذ البداية سبّبها العالَم الذي أنتمي إليه، العالم الأوروبي والغربي. وثانياً، سأقول له إنّني سأكون إلى جانبه دائماً، لأنّ القضية الفلسطينية قضية العدالة ولا تمسّ شعب فلسطين فقط، بل مصير الإنسانية.
إنّ التخلّي عن شعب فلسطين يعني السماح للظلم وشريعة الغاب بالسيطرة على العالم. وإذا سمحنا لـ"إسرائيل" بتنفيذ استراتيجية الإبادة في غزّة حتى النهاية، فإنّنا لا نسمح بالإبادة الجماعية فحسب، بل نسمح أيضاً بانهيار الإطار الهشّ، ولكن الضروري جداً، للقوانين الدولية التي حاولت، بعد فظاعة الحرب العالمية الثانية، التخفيف من همجيّة الحرب. يختفي مفهوم جريمة الحرب عندما يتمّ التغاضي عن قصف المستشفيات وسيارات الإسعاف، وقتل الصحافيين والعاملين في المجال الصحي، والحصار الذي يسبّب الجوع والعطش لسكان منهكين وعزّل، واعتباره مقبولاً... نحن نقوم بإضفاء الشرعية على الهمجية، وعواقب هذا لن تطاول سكّان غزّة فحسب، ولكنها ستطاولنا جميعاً عاجلاً أم آجلاً. لهذا يجب أن تبقى القضيّة حيّة وألّا نسمح بتدمير الذات، ويجب مواصلة المقاومة، ولكن لتحقيق ذلك يجب أن تكون هناك قيادة فلسطينية مُوَحّدَة تحترمها غالبية الفلسطينيين، وهو أمر غير موجود حالياً، ذلك لأنّ "إسرائيل" أخذت على عاتقها، من بين أمور أُخرى، تدمير أيّ مشروع فلسطيني موحّد، ناهيك عن الموقف السلبي للدول الأوروبية في مواجهة الاستيطان والاحتلال الإسرائيلي.
بطاقة
كاتبة وصحافية إسبانية من مواليد عام 1944. درست الفلسفة والآداب في "جامعة كومبلوتينسي" بمدريد. عاشت في بلدان عربية عدّة كالأردن ولبنان، وارتبطت مسيرتها المهنية بفلسطين. غطّت الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 لصالح التلفزيون الإسباني. من مؤلّفاتها: "الزيتون المقطوع: مشاهد من الاحتلال" (2006)، و"فلسطين: خيط الذاكرة" (2012)، و"ضدّ النسيان: ذاكرة تصويرية لفلسطين ما قبل النكبة 1889 - 1948" (2016).
* كاتبة ومترجمة سورية مقيمة في إسبانيا