أرتور شوبنهاور.. الإقصاء من صخب العالم

21 سبتمبر 2021
شوبنهاور في بورتريه لـ كوبيستا بوهوميل، 1908 (Getty)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الحادي والعشرون من أيلول/سبتمبر، ذكرى ميلاد الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور (1788-1860).


يرقد شوبنهاور في الـ"فرانكفورتر هوبت فريدهوف" (المقبرة الرئيسية لمدينة فرانكفورت). وكمعظم الفلاسفة، وبقية الأعلام من الموسيقيين والرسامين والأدباء والسياسيين، تُرجِّح أن يكون الوصول إلى ضريحه يسيراً. لكن الحال ليس كذلك مع شوبنهاور، ولك أن تتساءل وقتها: هل الأمر متعمّد؟ هل توجد رغبة - ربما لاواعية - بمحاولة إخفاء أثر فيلسوف كان يثير الرعب في النفوس البشرية؟ ألم يحدث معه الأمر ذاته حين يكتب تاريخ الفلسفة؟

لن تجد وأنت تبحث عن مكان القبر ما يدلّك من الإشارات، وستجد الكثير من القبور الفخمة، فتقول لا بد أن يكون شوبنهاور صاحب أحدها ثم تقرأ اسماً آخر، وفي التعريف ستجد أن صاحب القبر كان مدير بنك أو صاحب شركة، وحتى إن سألت عمّال البلدية الذين كانوا يكنسون أوراق الخريف فإن اسم أرتور شوبنهاور لا يعني لهم شيئاً. ولم يبق بعد ذلك سوى اختراع منهجية هندسية لمسح المقبرة والعثور على ضريح صاحب "العالم كإرادة وتمثّل".

أخيراً، ستقف أمام ضريح مسوّى بالأرض تقريباً، محفور فيه اسم الفيلسوف الألماني في الحجر، ولا بدّ من تدقيق النظر كي تقرأ: أرتور شوبنهاور مكتوبة بأسلوب قوطيّ، فتفرح بأنّ العراقيل المنصوبة حول الفيلسوف لم تحل دون أن تجد ضالتك. صحيح أن المكان يشبه حديقة صغيرة مسيّجة داخل المقبرة، ولكن لا شيء يدلّ على أن الرجل الذي تستقر رفاته تحت الحجر علم من أعلام الفكر.

على عكس فلاسفة آخرين، لم يصبح ضمن المزارات السياحية

أذكر أنني قرأتُ عن شوبنهاور بأنه كان يخشى أن تتحوّل أفكاره إلى دروس، لأنه كان يحدس أن مهمّة إلقائها ستكون على عاتق بعض الأكاديميين الذين جعلوا من المعرفة مجرّد وظيفة، وهؤلاء سيسيئون نقلها إلى عقول الشباب بالتأكيد. من هذا المنظور، لن يتألّم الفيلسوف لأن قليلين يأتون لزيارته، عكس فلاسفة آخرين من نفس عصره يحجّ الناس إلى أضرحتهم، مثل هيغل وماركس، ويلتقطون هناك الصور التذكارية. الأرجح أنه مرتاح لهذا الوضع، كما كان مرتاحاً لعقود من العزلة قضاها يكتب ويتأمّل بعيداً عن صخب الحياة الثقافية والجامعية.

فضّل شوبنهاور السكينة والعزلة طوال حياته، إذن فإن ما يحدث حول قبره يبدو مثل تنفيذ وصيّة. بالتأكيد لن يستسيغ أن يجد اسمه اليوم ضمن الخريطة السياحية لمدينة فرانكفورت، كما هو الحال مع غوته. لقد سبق أن لفظ شوبنهاور حياة القصور الباذخة، ورفض المستقبل الذي أعدّه له والده كتاجر، ثمّ ترك النجومية المعرفية غير آسف. ما يهمّه هو الذهاب بأفكاره إلى مداها، وحين لاحقها وجد نفسه في مواجهة الحقائق الأليمة لسكنى العالم، وبدأ في تفريغ ذلك بمفردات الفلسفة.

كان إحضار تلك "الحقائق" إلى الحياة اليومية للبشر نوعاً من الإزعاج. يرى شوبنهاور في أمجاد الحرب والعلم مجرّد ترتيب ديكوري للأشياء، لا يقوم على أي منطق. ويرى الحياة العامة معركة بين تماسيح وكلاب وسلاحف. ويرى في معظم القيم، من العدالة إلى الحب، أوهاماً مضلّلة.

ضريح شوبنهاور

كيف يقبل الناس من يقول لهم إن الحياة تنوس بين المعاناة والملل. بالنسبة له، كانت المسألة بسيطة وواضحة؛ ما رغبنا في شيء إلا وعشنا معه ألم الحرمان، وما إن نلبّي رغبتنا حتى تزول الشرارة التي تحرّكنا فنقع في الملل. حتى لو كانت تلك هي الحقيقة بمعايير العقل والمنطق، فالناس في حاجة إلى وهم يلطّف الواقع الذي يعيشونه، ولذا فإن صوت شوبنهاور غير مرحّب به.

ما يبدو من نسيان لقبره وذكراه يبدو مثل تنفيذ وصيّة

أن يكون صوت الفيلسوف مقصياً من الحياة العامة فذلك أمر غير نادر، لكن شوبنهاور كان مقصياً أيضاً من الحياة الفكرية. تقريباً مطروداً من كل مكان. التقى في ذلك قرار الجماعة وقراره الذاتي. كان يسخر علانية من فلاسفة عصره، ومنهم هيغل الذي حوّله إلى عدو شخصيّ، وكذلك فيشته وشيلنغ. لم يكن يعترف من المعاصرين إلا بالفيلسوف كانط، واعتبر بأنه وريثه الوحيد، وهو ما جلب له عداء الكانطيين ودارت معهم معارك فكرية ضارية كانوا يتهمون فيها شوبنهاور باستعمال مفاهيم كانط في دلالات بعيدة عن مراد صاحب "نقد العقل المحض"، أما هو فكان يردّ عليهم بأنهم يتخبّطون في سوء فهم مزمن، ليس لكانط وحده، بل للفلسفة في مجملها.

قد يوحي هذا الإقصاء من الفضاء العمومي للثقافة في النصف الأول من القرن التاسع عشر بأن شوبنهاور قد خسر معاركه، لكن الخروج من تلك الحقبة الزمنية أظهر أنه أكثر المفكّرين تأثيراً. بدأ الأمر مع فريدريك نيتشه وريشار فاغنر في ألمانيا، ثم ظهر الأثر الشوبنهاوري في دوائر أوسع؛ في أدب الروسيين فيودور دوستويوفسكي وليون تولستوي، والفرنسي إيميل زولا، والأرجنتيني خورخي لويس بورخس، وأقام فرويد وبرغسون نظرياتهم حول مفاهيم شوبنهاور؛ إذ وجدوا أن إمكانية قول شيء فكري جديد يمرّ عبر الخروج من تتبّع الجذر الرئيسي للفلسفة، وخارجه كان شوبنهاور ينتظرهم بمفاهيم الإرادة والفردانية والشعور بالآخر والحدس.

هكذا فشلت كل المحاولات من أجل إقصاء الأفكار المزعجة. باتت كوابيس شوبنهاور الفكرية هي العملة الثقافية الرائجة بعد رحيله، ومن ثمّ بدا كأحد آباء القرن العشرين. لقد كُذّب شوبنهاور حين أشار إلى الوحشية العميقة التي تكمن في النفوس البشرية، وأرجع ذلك إلى حالة قصوى من "كره البشر"، لكنّ حروب أوروبا في الداخل والخارج كانت تؤكّد على أن الفيلسوف الألماني لم يكن ينطق عن الهوى، وكان أولى أن يُنظر إلى فكره بجدية أكبر فلا يختزل في "فلسفة للتشاؤم". لكأنها قبره الذي يحبّ كثيرون أن يضعوه فيه.

ربما علينا اليوم أن نتصالح مع تشاؤم شوبنهاور، فداخله توجد إشارات إلى حقائق تعمل البشرية على إنكارها، ولا ينفع في ذلك إقصاء مفكّر أو شاعر يجهر بما يرى. شوبنهاور المنسيُّ في تربةٍ في فرانكفورت لا يزال ينهض من حين إلى آخر مذكّراً بما رأى. وما تزال الهواجس والمخاوف تعمل بكل طاقتها من حولنا، وبالتالي فهي تستدعيه رغم جهود تناسيه، وفي كل مرة ينتفض شوبنهاور ويزول عنه القبرُ والكفنُ.

المساهمون