أحمد غونيشتيكين: استعادةٌ للذاكرة أم ترويج للنسيان؟

23 ديسمبر 2021
جانب من تجهيز لغونيشتيكين بعنوان "تحلُّل"، في حيّ السور القديم بديار بكر (من المعرض)
+ الخط -

فتح معرض "غرفة الذاكرة"، للفنان الكردي أحمد غونيشتيكين، أبوابه أمام الزوّار في السادس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وذلك في حيّ السُّور التاريخي بمدينة ديار بكر، حيث كان يفترض أن يستمرّ حتى نهاية الشهر الجاري. وعلى الفور تقريباً، أثار المعرض نقاشاتٍ حادّة في تركيا حول ما يقترحه غونيشتيكين، الذي يحظى بشُهرة عالمية، والذي سبق له أن أقام معارض في برشلونة (2015) ونيويورك (2017)، من بين أماكن أُخرى.

ويسعى معرض غونيشتيكين الحالي إلى مقاربة عددٍ من الإسقاطات، أو الإغفالات، وكذلك المحو، في التاريخ التركي الرسمي، إضافة إلى القمع الموسّع الذي تتعرّض له الأقلّية الكردية. وقد بدا المعرض كصاعقةٍ، وكواحدةٍ من أكثر الفعاليات الفنّية إثارةً للجدل في الفترة الأخيرة بتركيا. فقد جرى انتقادُه بقوّة من قبل البعض، بمن فيهم وجوه من المجتمع الكردي والمشهد الفني التركي، وذلك لفشله في إنجاز وعده بأن يكون غرفةً للذاكرة عن حقّ. وحاجج المنتقدون بأن الفنان ومعرضه ظهرا ــ ولا سيّما في حفل الافتتاح ــ قريبَيْن جدّاً من هؤلاء الذين يعملون على إدامة النسيان، ومن الذين يمثّلون عُنف الدولة. لكنّ آخرين نظروا إلى المعرض بوصفه فرصةً للوقوف على الرقم القياسي الذي تبلغه تواريخ العنف التي جرى ارتكابها في البلاد، والتي ظلّت ممنوعةً وغير معلنة.

واحدٌ من أكثر المعارض إثارةً للجدل أخيراً في تركيا

بُعيد افتتاح المعرض بمدّة قصيرة، راحت صورةٌ فوتوغرافية تنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي التركية، لتُثير إدانةً فورية. وتُظهر الصورة زائرةً تقف، عند المغيب، مبتسمةً أمام صفوفٍ من التوابيت الملوّنة التي يتألّف منها تجهيزٌ فنّي لغونيشتيكين يحمل عنوان "فساد" أو "تحلُّل" (Çürüme، 2017). ثم جرى تداوُل لوحةٍ مرسومة انطلاقاً من الصورة على مواقع التواصل الاجتماعي.

"لوحة تذكارية إلى جانب تابوت" لـ تيموز تشيليك، زيت على قماش، 55 × 45 سم، 2021
"لوحة تذكارية إلى جانب تابوت" لـ تيموز تشيليك، زيت على قماش، 55 × 45 سم، 2021

وجاءت صورٌ أُخرى، نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، لتزيد من حدّة النبرة والنقد. أبرزُها مقطعٌ مصوّر لمشهد دبكة فولكلورية (Halay) تظهر فيه شخصياتٌ تمتلك حصيلةً مُخزية من غضّ الطرف والانحياز إلى القمع المستمرّ منذ وقت طويل ضدّ الأقلّية الكردية، وقد شوهدت هذه الشخصيات وهي ترقص في حفل الافتتاح جنباً إلى جنب رجال أعمال وسياسيّين، ضمن أجواء احتفالية.

كما قام زوّارٌ من خارج المدينة بالتقاط العديد من صور السيلفي الفرِحة أمام التجهيز ذي الألوان الزاهية، الذي يحمل عنوان "أبجدية غائبة" (Kayıp Alfabe)، وبدا هؤلاء من الطبقات الاجتماعية التي تحظى بالرّخاء وبالحماية التي يوفّرها عديدُ أشكال التمييز في البلاد. وجاءت هذه الصور لتزيد من حدّة الانتقادات. ويُظهر التجهيز أسماءَ أشخاصٍ مفقودين أو جرى اغتيالهم على لافتات ورموز وإشارات مرورية تُشير إلى أماكن عمومية (شوارع، حدائق، ساحات)، في محاولات لتقديمها بوصفها صوراً وجزءاً من الذاكرة العمومية. وقد حاجج المنتقدون بأن صور سيلفي فرِحةً تشكّل قطيعةً مع أخلاقيات المعرض وتنزع المصداقية عن دوافع الفعالية، خصوصاً وأنّ المعرض ادّعى، منذ افتتاحه، مواجهة الماضي العنيف وتنمية الفكر النقديّ بما يتجاوز التاريخ الرسمي الذي كتبته الدولة.

وممّا زاد من حدّة الجدَل، تقديم ميرال أكشينر إكليلاً من الزهور خلال حفل الافتتاح، وقد كان أكشينر وزير الداخلية في التسعينيات، أي في الفترة التي كانت حالات اختفاء الناس وإعدامهم في ذروتها بتركيا.

وفي التاسع عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر، قامت مجموعة من المتظاهرين بالتّعرض بشكل عنيف إلى عدد من التوابيت الملوّنة قرب جدران قلعة ديار بكر حيث كانت موضوعةً في إطار المعرض. وقالت مجموعة المتظاهرين إن المعرض ينتهك ويخون القيَم الجوهرية للشعب الكردي ولسكّان آميد (ديار بكر باللغة الكردية).

انتقادات لصور رقص وابتهاج أمام أعمال عن قتلى ومفقودين

وردّ غونيشتيكين بلقاءٍ صحافيّ وبتغريدات على وسائل التواصل الاجتماعي، مؤكّداً على استقلاليته الفنّية في ما يخصّ، على سبيل المثال، استخدامه واختياره لألوان زاهية في بعض التجهيزات. كما رفض صراحةً الادّعاءات القائلة بأنه فنان مدعوم من قِبَل السُّلطة الحاكمة في البلد، مشيراً إلى قلّة الدعم الذي قدّمه مكتب المحافظة إلى المعرض. ونوّه غونيشتيكين بأنّ جمهوراً متنوّعاً قد حضر الافتتاح، بما في ذلك الذين ينتقدون الدولة بسبب قمعها للشعب الكردي.

ولم يغب المعرض عن اهتمام الحكومة الحالية في تركيا. إذ علّق عليه وزير الداخلية الحالي متسائلاً عن سبب تناوُل غونيشتيكين لِمَن تعرّضوا للقتْل أو الاختفاء من بين الأكراد فقط، وليس هؤلاء الذين أرداهم "حزب العمّال الكردستاني"، الذي تصنّفه تركيا والولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي كمنظّمة إرهابية.

وقد قام غونيشتيكين بجولةٍ شخصية في المعرض يوم السبت، الثالث والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر، شارحاً الأعمال الفنية للزوّار ومجيباً عن الأسئلة. وقد شهد المعرض حضوراً قويّاً، ولا سيّما من قِبَل التجمّعات المحلّية. كما حضرت المعرض شخصياتٌ من "أمّهات السبت" ــ وهي واحدة من أقدم حركات الاحتجاج السِّلمي في تركيا ــ لتقدّم الدعم لغونيشتيكين. والتقى الفنّان و"أمّهات السبت" بالصحافة أمام عملٍ مهدىً إلى الحركة، يحمل عنوان "ليس الإنسان طائراً يطير" (تجهيز، 430 × 430 × 20 سم).

من المعرض
من المعرض

ويتألّف تجهيز "ليس الإنسان طائراً يطير" من أكثر من 400 جمجمة تغطّي وجوهها، بإحكام، أوشحةٌ ملوّنة من تلك التي يشيع استخدامها في الثقافة الكردية. وقد كُتبت أسماء الأشخاص المختفين أو الذين جرى إعدامهم على خلفية اللوح الذي ثُبِّت عليه التجهيز. ويُحيل التجهيز على الوقفة الاحتجاجية المسائية التي تقوم بها "أمّهات السبت"، وهي اعتصامٌ سلميّ يجري تنظيمه كلّ سبتٍ منذ عام 1995 في ساحة غلطة سراي العامّة في إسطنبول. وتُطالب الأمّهات بمعرفة أماكن وجود أبنائهنّ وأفراد أسرهنّ وآبائهنّ الذين اختفوا بعد الانقلاب العسكري الذي عرفته تركيا في عام 1980. وثمّة مئاتٌ من الأكراد بين الذي جرى خطفهم، أو إعدامهم، أو بين "المختفين". وتُشبه حركة "أمّهات السبت" حالاتٍ سابقة من البحث عن أحبّاء فُقدوا خلال قمع الدولة أو الدكتاتورية، كما هو حال أمّهات وجدّات "بلازا دي مايو" في الأرجنتين.

من الأعمال المهيبة التي يضمّها المعرض، إن كان لناحية حجمها أو لناحية الرمزية التي تجسّدها، العمل الذي يحمل عنوان "عندما كنتَ غائباً" (Yoktunuz، تجهيز، 310 × 1000 × 120 سم، 2017). يتألّف التجهيز من عناصر تنتمي إلى الحياة اليومية في حيّ السور القديم بديار بكر: أكواب، ودمى، وكراسي، ومواقد غاز ــ وقد جرى تجميعها، عمداً، بشكل فوضويّ. تُحيط بحيّ السور قلعة ديار بكر، التي يبلغ ارتفاع حِصنها الحجريّ 40 قدماً، وهي مصنّفة من قِبَل "اليونسكو" كموقع تراث عالمي، ومهدّدة بعمليّة تغيير لشريحة ساكنيها الاجتماعية (gentrification) من قِبَل الدولة. وقد قام غونيشتيكين بجمع هذه عناصر التجهيز شخصياً بعد أن دُمّرت البلدة القديمة خلال اشتباك بين الجيش التركي و"حزب العمّال الكردستاني" في نهاية عام 2015 وبداية 2016. قُتل 25 شخصاً على الأقلّ خلال حصار السّور، في حين تتحدّث مجموعات حقوقية عن مقتل أكثر من 200 مدنيّ في المناطق التي كانت خاضعة لحظر تجوّل. وما يزال البحث عن الجثث وعن الأشخاص المفقودين مستمرّاً حتى هذه اللحظة في ديار بكر.

من المعرض
من المعرض

ورغم ذلك، لم يمنع هذه السياق السياسي الثقيل وهذا الحِمْل المعنويّ الزوّارَ من أخذ صور السيلفي أمام الأعمال الفنية. وقد وُجّهت اتّهامات إلى الزوّار القادمين من خارج المدينة إلى حفل الافتتاح، والذين يُزعم بأنهم ينتمون إلى الطبقات الاجتماعية العُليا في إسطنبول، بقِلّة الحِسّ وبغياب التعاطُف أمام المحتوى المأساوي الذي تتألّف منها الأعمال الفنية. غير أنّ الجمهور المحلّي في ديار بكر قد قام أيضاً بالتقاط صور السيلفي، وفي وضعيات مبتهجةٍ أحياناً، أمام هذه الأعمال.

بعد مغادرة "أمّهات السبت" لمكان المعرض، قام غونيشتيكين بالردّ على أسئلة الزوّار وبتوقيع كتب، كما وافق على أن تُلتقط له صورٌ إلى جانب بعض المعجبين. وبينما كان الفنان يقف لالتقاط صورة إلى جانب أحد المعجبين أمام العمل الفني ذاته الذي كانت تقف أمامه "أمّهات السبت" قبل لحظات، ابتسم غونيشتيكين كردٍّ على ابتسامة ذلك المعجب أمام الكاميرا. أحد الأشخاص الواقفين على مقربة، وهو كما يبدو من مساعدي الفنان، قدّم نصيحةً لغونيشتيكين: "من الأفضل ألّا تبتسم، سيّدي. سيأتي لك ذلك بالنقد".

كان يفترض أن يُبقي معرض "غرفة الذاكرة" أبوابه مفتوحةً داخل قلعة ديار بكر التاريخية حتى الحادي والثلاثين من الشهر الجاري، قبل إغلاقه الأسبوع الماضي دون توضيحات كافية عن السبب. بينما سيبقى الفن، والأحداث التي ترافقه، سبباً لظهور المزيد من النقاشات والأفكار النقدية حول السياسة وحول تسليع الفن المعاصر المعنيّ بالذاكرة والنسيان.

المساهمون