أحمد جواد.. الثقافة في المغرب وسياسة الأرض المحروقة

10 ابريل 2023
من المسرح البلدي في مدينة الجديدة المغربية
+ الخط -

يعيش المعنيّون بالشأن الثقافي في المغرب، منذ فترة طويلة، تهميشاً مفروضاً عليهم؛ لأنّ المسؤولية على هذا القطاع الحيوي تُسنَد إلى غير أهلها. لعقود، ظلّت الثقافة في المغرب تُمثّل وجه البلاد المُشرِق في مجالات الفكر والآداب والمسرح والفنّ التشكيلي، وكان المنتجِون في هذا المجال - وما زالوا - يُمثّلون الطليعة المتقدّمة لما يُطلَق عليه "الدبلوماسية الثقافية"، من خلال إنتاجاتهم الإبداعية وحضورهم في التظاهُرات الكبرى؛ سواء كانت مهرجانات أو ندوات أو مؤتمرات.

لكنّ زمنَ النكسة المُظلِم حلَّ بكلّ وُجوهه المُمتقعة والباهتة، وربّما لا حاجة لشرح الأسباب هنا، إنّما من الضروري، في المقابل، الحديث عن تجلّيات هذه النكسة على مستوى الواقع الثقافي.

عرفت وزارة الثقافة تراجُعات كُبرى خلال العقد الأخير، بتعيين وزراء لا علاقة تربطهم بالثقافة، وصار هذا القطاع مُلحَقاً بأسماء ليست لها مشاريع كُبرى تُغني المكتسبات التي حقّقها المنتجون الحقيقيون مع وزراء سابقين؛ فصرنا نتأسّى بمرثيات حزينة على زمن محمد الأشعري وثريّا جبران ومحمد أمين الصبيحي، وعلى الذين سبقوهم في إدارة الشأن الثقافي.

تشهد وزارة الثقافة تراجُعات كُبرى خلال العقد الأخير

إنه زمن الفَقْد واليُتم الكبير؛ فقد جرى نَسْف "اتّحاد كتّاب المغرب" كمؤسَّسة حاضنة للكُتّاب المغاربة، وصوت معبّر عن آمالهم وهمومهم، ومُحاوِر أساسي مَعنيّ بالشأن الثقافي، قَصْدَ احتوائه من قبل المؤسّسة الرسمية. واليوم، صرنا جميعاً شهوداً على أحداث مؤلمة، من قبيل التنكّر لأسرة الشاعر محسن أخريف الذي مات بصعقة كهربائية ناتجة عن ميكروفون مَعرض يُفترَض أنّه "عيد للكتاب"، وهو - حسب الوزارة المعنية - معرضٌ جهوي، ويحمل توصيف أقدم معرض للكتاب في البلاد.

لكنّ الأمر لم يتوقّف عند هذا الحدث بدلالاته المأساوية بشأن أسرة الفقيد التي وجدت نفسها بين عشيّة وضحاها من دون دعامتها وسندها أمام صمت الوزارة التي اختارت عدم تحمُّل أيّ مسؤولية تجاه الأُسرة المنكوبة؛ فقد توالت الأحداث المُمعنة في إهانة الثقافة المغربية، وشاهدنا بأمّ أعيننا تطاوُل وزير الثقافة على الفائزين بـ"جائزة المغرب للكتاب" وسَحْبها منهم، كما لو كان فاعل خير تصدّق عليهم من حُرّ ماله بهِبة يستطيع أن يسحبها أو يعيد توزيعها حسب هواه.

أحدُ الوجوه المشرقة في بلادنا هي "جائزة المغرب للكتاب". لكنّ قيمتها المالية البخسة تهين الكتّاب؛ خصوصاً عندما يُؤوِّل وزير ثقافة وزبانيّته المناصفةَ باعتبارها اقتساماً للمبلغ المالي البَخس للجائزة، وتمسُّكه بقيمة معنوية لا تُكرّم إلّا الوزارة ذاتها، وكأنّ مُنتجي الكِتاب لا يعيشون إلّا بالهواء وبالقيمة المعنوية.

كأنّ مُنتجي الكِتاب لا يعيشون إلّا بالهواء وبالقيمة المعنوية

هذه الجائزة ستجعل الوزير يفرض على الفائزين اللجوء إلى القضاء وهم ينشدون الإنصاف بقوّة القانون، وحينما تُصدِر المحكمة حُكماً لصالحهم، سيستأنف الحُكم في محاولة لإخضاعهم. بل إنّه، وانتقاماً من الكتّاب المغاربة، سيُلغي الجائزة بدعوى أنّ قانونها يخضع للتعديل قصْدَ تحسين شروطها، وهو ما يعني مصادرة حقّ منتجي الكِتاب الذين سيبقون لفترة مجهولة على كرسيّ الانتظار للذي يأتي ولا يأتي؛ وستدخل أعمالُهم حيّز النسيان لأنّها ستفتقد حقّها في التنافُس على نيل جائزة لطالما عانت من تدخُّلات خارجية لتحويلها لهذا أو ذاك، وبتوصية لنيلها كاملة غير منقوصة...

اليوم نعيش الحِدَاد بكلّ معانيه على فقدان رجل مسرح، وجد نفسه مضطرّاً أمام العوز والفقر أن يُضرم النار في جسده أمام مقرّ وزارة الثقافة في "اليوم العالمي للمسرح" الذي يُصادف 27 آذار/مارس، احتجاجاً على الوضعية المُهينة التي ظلّ يعيشها لسنوات، وهي احتفالية مأساوية في بلدٍ لا يحفظ كرامة مفكّريه وكتّابه وشعرائه ومسرحيّيه وفنّانيه. لكَمْ هو مخجلٌ أن يدافع مسؤولو الثقافة في الوزارة عن وزير لم يستطع أن ينتشل أحدَ موظّفي الوزارة المتقاعدين بمعاشٍ زهيد لا يلبّي متطلّبات عيش أسرته، ويجعل منه متسوّلاً بلا كرامة.

مخجلٌ أن يُصرّح مسؤول في الوزارة أنّ أحمد جواد - الذي ربّما علينا أن نُذكّر بأّنه أعطى بلا حساب للمسرح ووقف في وجه من كانوا يحاولون هدْم بناية المسرح بمدينة الجديدة في أشكال نضالية قلّما شهدها بلدنا، للدفاع عن مؤسَّسة تُنتج شكلاً من أشكال الإبداع الذي يسمّيه مَن يُقدّرون الثقافة ومُنتجيها أبَ الفنون - مخجلٌ أن يقول مسؤولٌ، دفاعاً عن الوزير الذي أغلق باب الوزارة في وجه أحمد جواد، ضدّ زميل له في المهنة، وهو يسمّيه بتجاهُل مُغرِض "شخصاً ما" و"فنّاناً"، من دون ذِكْر اسم الفنّان، يلجأ إلى الابتزاز من أجل الضغط على الوزارة لشراء عروضه المسرحية البسيطة والكثيرة...

أمعن بلاغ الوزارة في احتقار أحمد جواد بعدم ذِكْر حتى اسمه

كان موظَّفاً بسيطاً في "مسرح محمد الخامس" بالرباط، ويزاول في الوقت ذاته أنشطةً مسرحية، قبل أن يُحَال على التقاعُد سنة 2021، ويشرع في مطالبة الوزارة بشراء عروضه المسرحية، قبل أن تعود الوزارة - حفاظاً على مصالح الوزير أمام سُيول التعليقات والتدوينات المتضامنة مع الفنّان في شبكات التواصل الاجتماعي - لتُصدر بلاغاً تُعبّر فيه عن أسفها العميق لـ"هذا الحادث المأساوي"، متمنّية الشفاء العاجل لهذا المواطن "الذي نُقل لتلقّي العلاجات في 'المستشفى الجامعي ابن سينا' بالرباط"، موضحةً أنّ "الأمر يتعلّق بموظف متعاقد في 'مسرح محمد الخامس' بالرباط، أُحيل على التقاعد في أكتوبر 2021، ويتمتّع بجميع حقوقه المكفولة له بحُكم القانون"، وأنها "تتابع حالة الشخص المذكور، لحظة بلحظة، إذ تم إيفاد مسؤول في قطاع الثقافة لتتبُّع حالته الصحّية بالمستشفى، وتتمنّى له الشفاء العاجل".

ومثل تصريحات المسؤول الوزاري هذه، أمعن بلاغ الوزارة في تجاهُل واحتقار وإهانة الفنّان أحمد جواد، حتى بعد الحادث المأساوي بعدم ذِكْر حتى اسمه، وهذا وحده يلخّص سياستها؛ سياسة التجاهل والتهميش والاحتقار والعِقاب الجماعي للكُتّاب والشعراء والمفكّرين والفنانين المغاربة؛ سياسة الأرض المحروقة.

مُخجلٌ أن تُسنَد وزارة الثقافة في المغرب إلى عديمي الكفاءة والغرباء عن حقل الثقافة، والرهان عليهم لتقديم الوجه المشرق للبلاد.


* شاعر ومُترجم من المغرب

المساهمون