ثمّة مَن يمرُّ في هذا العالَم من الروائيِّين، فيترك لنا عشرات الأحداث والشخصيات والرغبات والأقوال العميقة عن الحبّ والصداقة والحياة والموت والبقاء، ولكنّه يأبى أن يسلّم رايته لأيّ كاتب من بعده. إنّه هو وحده من يمثّل نفسه، وليس في نصوصه أيّ تقنية فنّية جديدة، أو أيّ جزء يُمكن توريثه. ولن يتمكّن أيّ كاتب من بعده - على اعتبار أنّ الكتّاب هُم الذين يرثون الكتّاب في الطريقة وفي التقنيات - من الادّعاء أنه يسير على خُطى هذا الروائي.
دوستويفسكي، مثلاً، الذي قُرِئ على الأرجح في جميع لغات العالَم الحيّة، لم يترك وراءه كاتباً واحداً في العالَم يُمكن أن يسمّى: "دوستويفسكيَّ العالم أو الطريقة". فالروائي الروسي قدّم أفكاراً شديدة الأهمية في الحياة البشرية، كما أنّ شخصياته الروائية حاضرة حضوراً قويّاً في معظم الثقافات البشرية، ولكنه أدّى دوراً ثانوياً في الفنّ الروائي، أي أننا لا نجد لديه ذلك الانشغال الذي ظهر لدى الروائيِّين في القرن العشرين بتقنيات الرواية، بحيث يشكّل تياراً، أو مدرسة كما يُقال في الفنّ الروائي. ولكنّ عالمه مستقلٌّ ومختلف ووحيد وخاص ولا يُمكن تتبُّع خطاه.
بينما يُمكن أن نجد العشرات من الروائيِّين المعروفِين في العالَم، الذين أسّسوا لفنّ الرواية، أو أولئك الذين تابعوا هذا الرِّيادة، وطوّروها، وقدّموا اقتراحات فذّة في الكتابة، استفاد منها، تقنياً، مئاتُ الكتّاب في العالَم. فأينما تجوّلتَ في عالَم الرواية، سوف تجد آثار الروائي الأميركي وليم فوكنر، ومن الصعب أن تقرأ نقاشاً مطوّلاً على غرار نقاشات "الإخوة كارامازوف" في رواياته، غير أنّ عالَمه يضعنا أمام مُعضلات أُخرى تخصُّ وجودنا كبشر.
أسّس بلزاك تيّاراً طوّره بعده روائيّون من العالم كله
إضافة إلى أنّه قدّم تطويراً لطرائق الكتابة، وأسّس بقوّة، مع الروائي الإيرلندي جيمس جويس، لتيّار شديد الأهمية في التاريخ الأدبي، هو تيار الوعي، الذي ترك تأثيراً واسعاً في عالم الرواية، وطرائق وأساليب الروائيّين الفنية، إلى حدّ أن يكتب الروائي الأورغوياني خوان كارلوس أونيتي كتاباً نقدياً عنوانه "قدّاس من أجل فوكنر".
ومثله بلزاك، الفرنسيّ الذي راح يسجّل بعدسةٍ شبه مجهرية، أحوال وأحداث وطِباع الفرنسيّين في عصره، ويبتكر القصص والحكايات، والطرائق في بناء مجموعة هائلة من الروايات (بلغت مئة رواية) التي أطلق عليها اسم "الكوميديا الإنسانية". وبلزاك هذا، دون أن يدري، أسّس لمدرسة، وصار معلّم المدرسة، الذي جاء من بعده عشرات الروائيّين البلزاكيّين الذين ينتشرون حول العالم، ومنهم روائيّون معروفون أيضاً، في عالمنا العربي، وفي غيره من العوالِم، وقد ساهم كلّ منهم بحِصّةٍ ما في تطوير هذا الفنّ العظيم، من داخل التجربة البلزاكية، أو في الإضافة إليها.
مَن يُمكن أن نضع في رأس القائمة؟ مَن يُورِث أم مَن لا يُورِث؟ وأين المسألة: لدى الوَرَثة، أم في الوِرْثة ذاتها؟ كِلا الأمرين شديد الأهمية. ويبدو أننا كقرّاء نحتاج إلى روائي الأفكار والتأمّلات والشخصيات التي لا يُمكن أن يُشبهها أحد، أو يقول قولها. بقدر ما ننتظر روائيَّ التقنيات والاقتراحات الفنّية التي لا تطوّر فنّ الرواية وحسب، بل تقترح على الواقع أشكالاً جديدة من التفكير.
* روائي من سورية