أبو دلف الخزرجي الينبعي: استكشاف أرمينيا وأذربيجان في القرن الرابع الهجري

26 ديسمبر 2020
بحيرة أرومية، Getty
+ الخط -

ينتمي الرحالة والجغرافي أبو دلف مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبعي إلى العصر الذهبي في الجغرافيا العربية الإسلامية التي شهدت ولادة قامات شامخة في هذا الصنف من الكتابة والتأليف، كالمقدسي البشاري، والمسعودي، والمهلبي، وابن حوقل، حيث أمدنا هذا العصر بأهم المؤلفات الجغرافية والبلدانية العربية. ولكن؛ وللأسف فإن مؤلفات أبي دلف مفقودة في مجملها، وخصوصا كتابه "عجائب البلدان" الذي استفاد منه ياقوت الحموي والقزويني وغيرهما من جغرافيي العصرين الأيوبي والمملوكي.

ولد رحالتنا في مدينة ينبع، ميناء المدينة المنورة على البحر الأحمر، لأسرة تنتمي لقبيلة الخزرج الأنصارية، ولا أحد يعرف تاريخ ولادته، ولكنه وبناء على المعطيات المتوفرة لا بد أن يقع في الثلث الأخير من القرن الثالث الهجري إذ عمل في الفترة ما بين عامي 301 و331 للهجرة في بلاط السامانيين في مدينة بخارى، حيث كلف بسفارات استفاد منها في تدوين مؤلفاته. وقد رآه ابن النديم صاحب "الفهرست" في العام 377 للهجرة شيخا عجوزاً قارب المائة.

رافق رحالتنا الأمير نصر الثاني بن أحمد الساماني عام 331 هـ في رحلة إلى الصين، وكانت عودته عن طريق تركستان والتبت والهند، فجمع مادة كتابه المفقود "عجائب البلدان" الذي وصلتنا منه فقط اقتباسات نقلها ياقوت الحموي في "معجم البلدان" وابن النديم في "الفهرست" والقزويني في "عجائب المخلوقات". أما رحلته الثانية فطاف فيها بلاد فارس وأذربيجان وأرمينيا ودون وقائعها في رسالة مخطوطة تحتفظ بها مكتبة مشهد في إيران.

غلاف الكتاب

تمتاز ملاحظات أبي دلف بالأصالة كونه شاهد عيان، ولا يبدو أنه اعتمد على الرحالة والجغرافيين الذين سبقوه في تدوين مشاهداته، وتظهر المقتطفات المتبقية من مؤلفاته اعتناءه بدراسة الحدود والمدن والمواصلات والأنشطة الاقتصادية. وقد ساهمت معلوماته، بحسب المستشرقين الذين درسوه بتصحيح الكثير من المعلومات الخاطئة وفي رسم الخرائط الإسلامية المبكرة.

في مقالتنا هذه سنتناول وصفه لأذربيجان وأرمينيا، حيث يعد وصفه لها في ذلك الزمن المصدر الرئيسي الذي اعتمده جغرافيو العصور اللاحقة وخصوصا ياقوت الحموي.

في باكوية عاصمة أذربيجان

يصل رحالتنا إلى أذربيجان في الجبل (جبل القفقاس) بعد أن سار ثمانين فرسخاً (أكثر من 400 كم) تحت الشجر على ساحل بحر طبرستان العظيم الذي هو بحر قزوين فيصل إلى مدينة باكو عاصمة أذربيجان التي يسميها باكوية. فيقول: "ألفيت بها عينا للنفط تبلغ قبالتها كل يوم ألف درهم، وإلى جانبها عينا أخرى تسيل نفطاً أبيض كدهن الزنبق لا ينقطع ليلاً ولا نهاراً، يبلغ ضمانه مثل ذلك. وسرت من هناك في بلد الأرمن حتى انتهيت إلى تفليس. وهي مدينة لا إسلام وراءها، يجري فيها نهر يقال له الكر يصب إلى البحر وفيه غروب تطحن، وعليها سور عظيم، وبها حمامات شديدة الحرارة لا توقد ولا يستقى لها ماء، وعلتها عند أولي الفهم تغني عن تكلف الإبانة عنها".

ويضيف قائلاً: "أردت أن أمضي إلى مغار الطيس لأنظر إليه، فلم يمكن ذلك لسبب قطع عنه، وانكفأت إلى الغرض ومنها إلى أردبيل، فركبت جبال الويزور وقبان وخاجين والربع وحندان والبنذين. وبها معدن الشب المنسوب إليها وهو شب الحمرة المعروف باليماني، ومنها يحمل إلى اليمن وواسط، ولا ينصبغ الصوف بواسط إلا به، وهو أقوى من المصري، وبها وبأردبيل وهذه الجبال التي تقدم ذكرها حمامات تصلح للحرب فقط".

ويحدثنا أبو دلف عن موضع يسمى في زمنه البنذين ويعتقد أنه يسمى حاليا البظ، ويخبرنا أن فيه مقاماً لرجل لا يقوم فيه أحد يدعو لله إلا استجيب منه. ويشير إلى أن هذا الموضع يعد معقل المحمرة المعروفين بالخرمية، وفيه يتوقعون المهدي. وهي إشارة إلى الدعوة المهدوية الكردية التي ذكرها البطريرك التلمحري والتي تعرف في المصادر الإسلامية بالبابكية الخرمية.

وتحت هذا الموضع كما يقول: "نهر عظيم إن اغتسل فيه صاحب الحميات العتيقة قلعها عنه، وإلى جانبه نهر الرس، وعليه رمان عجيب لم أر في بلد من البلدان مثله، وبها تين عجيب وزبيبها يجفف في التنانير لأنه لا شمس عندهم لكثرة الضباب. ولم تصح السماء عندهم قط، وعندهم كبريت قليل يجدونه قطعا على المياه، ويسمن النساء إذا شربنه مع الفتيت. ونهر الرس يخرج إلى صحراء البلاسجان. وهي إلى شاطئ البحر. وفي الطول من برزند إلى برذغة، ومنها إلى ورثان والبيلقان".

بحيرة أرومية وأملاحها

بعد ذلك يحدثنا عن صحراء أرومية التي تضم خمسة آلاف قرية أو أكثر خراباً، ويقول إن "حيطانها وأبنيتها قائمة لم تتغير لجودة التربة وصحتها، ويقال إن تلك القرى كانت لأصحاب الرس الذين ذكرهم لله تعالى في القرآن، ويقال إنهم رهط جالوت قتلهم داود وسليمان علیھما السلام لما منعوا الخراج، وقتل جالوت بأرومية أيضاً وعليها قبره وكنيسة الفتح وكنيسة العز بأرومية أيضاً".

بعد ذلك يحدثنا عن بحيرة أرومية المرة التي لا نبات عليها ولا حيوان بقربها. ويضيف: "في وسطها جبال يقال لها كبوذان، وفيها قرى يسكنها ملاحو سفن ذلك البحر، واستدارتها خمسون فرسخاً ويقطع عرضها في ليلة ويخرج منها ملح بجلو يشبه بالتوتياء، وعلى ساحلها مما يلي المشرق عيون تنبع ويستحجر ماؤها إذا أصابه الهواء، وعيون تصب إلى البحر ماء مراً وحامضاً وملحاً إذا صب على الزئبق فتته لوقته وأقامه حجراً يابساً. وهناك حجارة بيض رخوة تبيض الأسرب (أي معدن الرصاص) في الذوب حتى تلحقه ببياض القلعي وقريب من الفضة، وعليها قلاع حصينة".


2
الحمة العجيبة قرب وادي الكرد

يشير الرحالة والجغرافي أبو دلف مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبعي في حديثه إلى وادي الكرد الواقع إلى جانب هذه البحيرة. ويقول إن "فيه طرائف من الأحجار وعليه مما يلي سلماس (وهي مدينة في أذربيجان) حمّة شريفة جليلة نفيسة الخطر، كثيرة المنفعة، وهي بالإجماع والموافقة خير ما يخرج من كل معدن في الأرض يقال لها "زراوند"، وإليها ينسب البورق الزراوندي". والبورق هو مسحوق كيميائي يعرف علمياً باسم بورات الصوديوم.

ويصف رحالتنا طريقة العلاج بهذه الحمة فيقول: "إن الإنسان أو البهيمة يلقى فيها وبه كلوم قد اندملت، وقروح قد التحمت ودونها عظام موهنة وأزجة كامنة وشظايا غائصة، فتتفجر أفواهها ويخرج ما فيها من قيح وغيره، وتجتمع على النظافة ويأمن الانسان غائلتها، وعهدي بمن توليت حمله إليها وبه علل من جرب وسلع وقولنج وجزاز وضربان في الساقين واسترخاء في العصب وهم لازم وحم دائم، وبه سهم قد نبت اللحم على نصله وغار في بدنه، وكنا نتوقعه يصدع كبده صباح مساء، فأقام ثلاثة أيام وخرج السهم من خاصرته لأنها أرق موضع وجد فيه منفذاً ولم أر مثل هذا الماء إلا في بلد "التيز" والمكران فإني أذكر علته إذا بلغت إلى سلوكى موضعه إن شاء لله وحده".

ويتابع وصف الاستشفاء بهذه الحمة فيقول: "من شرف هذه الحمة أن مع مجراها مجرى ماء عذب زلال، فإذا شرب منه إنسان فقد أمن الخوانيق، ووسع عروق الطحال الرقاق، وأسهل السوداء من غير مشقة، فإذا اكتحل صاحب العشا من مائها باردا أبصر، ومن اشتم من طينها لم تقمر عينه من الثلج، والبهيمة التي تدخلها لا تجرب ولا يجرب لها ولد أبدا. وبصب إلى هذه البحيرة أنهار كثيرة".

ويقول إن مسحوق البورق الذي يخرج من هذه الحمة هو لأرمينية وكذلك بورق البحيرة التي يستخرج منها الطريخ، والمقصود بها بحيرة وان الواقعة إلى الغرب من أرومية. والطريخ هو سمك تشتهر به بحيرة وان. وأيضا بورق يكون في باجنيس، ويشير إلى أن هذه المدينة هي بلد بني سليم، القبيلة العربية الشهيرة التي هاجر قسم منها إلى هذا المكان من أرمينيا. ويقول: "في هذا البلد ملاحة جيدة الملح وبها أيضا معدن للملح الأندراني، وبها معدن مغنيسيا ومعدن نحاس وهو الذي بجيزان، ومنه يكون التوتياء المحمودي والضفادعي، وفيه شيء من الزاج الأسود لا خير فيه. وملحها دون ملح جيزان وبها نبات الخزامى والشيح الذي يخرج الحيات من الجوف، إلا أن التركي خير منه وأقوى. وبها أبسنتين جيد وانيتمون صالح وبها أسطوخوذوس وحشائش كثيرة نافعة وبها السنبل الرومي".

ويحدثنا عن إقليم أفلوغونيا (غربي أرمينيا) ويقول إنه "بلد كبير فيه لا يخرج منه عالم ولا خرج في ما سلف وذلك بالطبع، وفي البلد قلاع حصينة منها قلعة يقال لها "وريمان" وهي في وسط البحر على سن جبل لا ترام وهناك نهر يغور في الأرض يقال إنه نهر نصيبين. والجذام يسرع إلى أهلها لكثرة أكلهم الكرنب".

ويتحدث عن طبائع أهل هذا الإقليم فيقول: "أقام عندهم بعض إخواني وزعم أنه لا غدر فيهم. وقال إن الرجل منهم إذا كان فقيرا لم يجب أن يراه أهل بلده. وهذه الخلة من كرم الطبيعة وصفاء الطينة". ويستطرد أبو دلف في وصف أنغامهم الدينية فيقول: "وأصواتهم في درس إنجيلهم وإيقاع نغمهم أطيب وأشجى من أصوات غيرهم من فرق النصارى. وترنمهم أبكى لقلب المحزون المائل طبعه إلى المراثي والنوح من رنات العرب بالندب. وألحانهم في البيع أحلى على سمع الطرب الصابر لأن المرح والفرح من ترجيع الأغاني. ويقال إن ترتيب غنائهم بالأوتار لطيب صحيح".


3
جبل أرارات
يذكر رحالتنا جبل "ماسيس" وهي التسمية الأرمنية لجبل أرارات، حيث يشير إلى أنه "يخرج من أصله عيون كثيرة غزيرة لا تنقص عن حالها ولا تزيد، باردة في الصيف مانعة حامية في الشتاء، ناعمة، لا يفارق الثلج رأسه شتاء ولا صيفا، ويتولد في ثلجه دود عظام جدا يكون طول الدودة نحو العشرين ذراعا وأكثر، في استدارته عشرة أذرع".

ويشير أبو دلف إلى وجود عيون في أرمينيا يخرج منها ماء حامض مفتح وأكثرها حول هذا الجبل. ويقول: "بها زرنيخ أصفر كثير في معدن واحد مما يلي المشرق. وبها زاجات وكباريت قليلة. ولا معدن فضة ولا ذهب بها"، لافتاً إلى أن أرمينيا "رخيصة الأسعار وربما كان القحط بها عظيماً جداً، وهي كثيرة الآفات وبها حجارة كثيرة ذوات خواص مذكورات. وتقوم بها عدة أسواق في السنة تباع فيها أشياء كثيرة من الفرش والديباج والبغال والبرذون وغير ذلك".

ويتابع وصفه لهذا البلد فيقول: "وأرمينية قليلة الآثار وبها معدن مرقشيثا صفراء (أي كبريتور الحديد) والذي بأرض الشيز في القرية المعروفة بنمراور خير منه، ولا أظن بأني رأيت مثله. وتتصل أرمينية بجبال الحور ثم بجبال داس ثم بالحرانية ونريز".

4
مملكة طائية في أرمينيا

حول مدينة نريز يقول إنها كانت مملكة لحافرة طيء. وكانت طرفاً مقصوداً قد قصده أبو تمام والبحتري وغيرهما، وكان علي بن مر الطائي صاحبها ممدوحاً يقصده الشعراء. ولكنه يشير إلى أن صنفاً من الأكراد "غلب على البلد يعرفون بالهذبانية فملكوا المدينة وعطلوا رسمها وأخربوا رساتيقها وعفوا آثارها. وتمادت بهم هذه الحال زماناً فلما ضعف السلطان، وأمنوا طلب الولاة، وقصد الأمراء عمروا ما أخربوا، واستعملوا في تلك الناحية مثل من تقدمهم، ووصلوا قراها لسلق والدينور وأعمال شهرزور".

وحول شهرزور يقول إنها "مدينتان وقرى وفيها مدينة كبيرة وهي قصبتها في وقتنا هذا يقال لها "نيم أزراي" وأهلها عصاة على السلطان، قد استطعموا الخلاف واستعذبوا العصيان. والمدينة في صحراء ولأهلها بطش وشدة يمنعون أنفسهم ويحمون حوزتهم. وسمك سور المدينة ثمانية أذرع؛ وأكثر أمرائهم منهم وبها عقارب قتالة أضر من عقارب "نصيبين" وهم موالي عمر بن عبد العزيز، وجرأهم الأكراد بالغلبة على الأمراء ومخالفة الخلفاء وذلك أن بلدهم مشتى ستين ألف بيت من أصناف الأكراد الجلالية واليابسان والحكمية والسولية، ولهم به مزارع كثيرة ومن صحاريه يكون أكثر أقواتهم".

 

المساهمون