آرا غولر.. كاميرا بعين التاريخ أوّلاً

12 اغسطس 2024
من صور معرض آرا غولر في الدوحة (جيلالي بريني)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **آرا غولر وإسطنبول**
آرا غولر، المصور التركي الشهير، عاش في إسطنبول ولقب بـ"عين إسطنبول". رغم تجواله العالمي، كانت صور إسطنبول بالأبيض والأسود الأبرز في مسيرته. متاحف قطر عرضت أعماله في معرض "على خُطى آرا غولر" بمتحف الفن الإسلامي بالدوحة.

- **توثيق التاريخ والثقافة**
في متحف الفن الإسلامي، تُعرض صور غولر التي توثق تركيا المعاصرة وتاريخها، بما في ذلك آثار الحضارة العثمانية. المعرض يضم أيضاً صوراً لإسطنبول من القرن التاسع عشر، وآلات تصوير قديمة، ولوحات فنية.

- **اكتشافات أثرية وعلاقات بارزة**
غولر اكتشف مدينة أفروديسياس الأثرية وجبل نمرود، وكلاهما مدرجان على قائمة اليونسكو. كان صديقاً لشخصيات بارزة مثل بيكاسو ودالي، وصورهم خالدة. فيلمه "نهاية البطلة" يعكس حزنه على تفكيك السفينة الحربية يافوز.

لم يعش آرا غولر في مكان آخر سوى إسطنبول. لذلك إن هذه المدينة التي يمكن أن تقطع مضيقها بقارب الكاياك لتنتقل بين قارتين في بلد واحد، تكفي لتكون عالمه، ولتظل رفيقة أعظم مصوّر فوتوغرافي في تركيا منذ منتصف القرن العشرين.

يجوب العالم ويلتقط مليوني صورة، لكن جوهرتها خصوصاً بالأسود والأبيض كانت من نصيب تلك المدينة التي منحته لقب "عين إسطنبول".

نحن أمام إطلالة أولى أتاحتها متاحف قطر بوصفها أول مؤسسة ثقافية عربية تتيح التعرف إلى الألبوم الواسع في معرض "على خُطى آرا غولر" الذي افتتح الجمعة الماضي في "متحف الفن الإسلامي" بالدوحة، ويستمر حتى 9 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل بالشراكة مع متحف آرا غولر في تركيا.

ويصادف يوم 16 أغسطس/ آب الجاري مرور 96 عاماً على ميلاد غولر (1928-2018)، سليل العائلة الأرمنية الذي ترك مليوني صورة، وكان طوال ستة عقود مدافعاً عن المعنى الصحافي لما ينبغي للصورة أن تنتمي إليه، بما يجعلها فاعلاً في التاريخ، في أساسه التوثيقي قبل أي شيء.


وجود تاريخي

في الطابق الرابع من متحف الفن الإسلامي تظهر تركيا المعاصرة من خلال حجرة الكاميرا، بما فيها من طبقات تاريخية لآثار حضارية غابرة، ومن هوية مكانية وإنسانية قلقة كانت تتأكد من وجودها الجديد بعد زوال الدولة العثمانية، والتطورات المتسارعة التي جعلت غولر مسكوناً بالحنين المضني إلى صور يفاخر المؤرخون بأنهم ما زالوا وسيبقون يستعملونها دليلاً على الوجود التاريخي في مرحلة ما وانقضت.

وإذا خطفتَ نظرة من الأعلى نحو الطابق الثالث، فثمة القسم العثماني ضمن مقتنيات متحف الفن الإسلامي، وقد أضاف منشئو المعرض بعض الصور التي صوّرت فيها إسطنبول على يد رواد التصوير في القرن التاسع عشر، مع بعض آلات التصوير القديمة، مثلما استعيرت بضع لوحات من متحف الفن العربي الحديث، خصوصاً منها لفخر النساء زيد إلى جانب صورتها الفوتوغرافية بعين غولر.


ميراث روحي

على النبض ذاته يمكن اعتبار المدينة ميراثاً روحياً من المصور إلى مواطنه الروائي أورهان باموق الذي كان طفلاً لم يتجاوز السنوات الخمس، حين سطع نجم غولر وباتت وسائل الإعلام العالمية ووكالات الصور تتسابق على صوره. كبر باموق حائز جائزة نوبل 2006، وكان لا بد أن يتأمل ذاته في صور غولر.

تغذت أخيلة كتاب عديدين مثل كونراد ونابوكوف ونايبول على الهجرة والاغتراب غذاء لا يأتي من الجذور، إنما من خلال قطعها.

هذا ما يؤمّن عليه أورهان باموق ليصل في كتابه "إسطنبول الذكريات والمكان" إلى القول إن خياله لم يكن ليقبل سوى أن تكون إسطنبول مدينته وقدره.

يتأمل باموق صورة بالأسود والأبيض. هو كذلك جاب الدنيا ليعود دائماً إلى ملعب روحه. هنا بيت جدته لأمه في شيشلي، الحيّ الإسطنبولي الشهير بقسمها الأوروبي، وفي الحيّ ذاته متحف آرا غولر.

ينظر باموق إلى الصورة فيكتب في كتابه "ينتابني حين أشاهد حشود الأبيض والأسود تندفع عبر الشوارع المظلمة في أمسية شتوية شعور عميق بالألفة".

من كتاب الأساطير السبعة
من كتاب الأساطير السبعة (من المعرض)

كانت صورة التقطها آرا غولر "بشكل رائع (..) ولا يقتصر ما يشدني على الشوارع المرصوفة بالحجارة والأرصفة، أو القضبان الحديدية على النوافذ أو البيوت الخشبية الآيلة إلى السقوط. ما يشدني أكثر هو الإيحاء بأن هذين الشخصين اللذين يجران وراءهما، وقد حلّ المساء للتو، ظلالاً طويلة في طريق العودة إلى البيت يلفان المدينة كلها بعباءة الليل".


أفروديسياس

على خطاه سيعرف العالم، بل قبلهم الأتراك لذة الانتباه إلى الموجود. أحياناً تفعل المصادفة فعلها، وللمصادفة قانونها السري. فمدينة أفروديسياس الأثرية موجودة، إلا أنها مغفلة تماماً. وكانت رحلة غولر إلى مدينة أيدين على بحر إيجه عام 1958 من أجل تصوير افتتاح سد كيكير لصالح مجلة "حياة".

وفي طريق عودته في وقت متأخر ذلك المساء، ضل سائقه الطريق، فقرر كلاهما قضاء الليلة في أقرب قرية يصادفانها. وبينما هما يستفسران في المقهى المحلي عن مكان للمبيت، لاحظ غولر رجالاً يلعبون الورق على تاج عمود قديم، ما أثار اهتمامه، وفي صباح اليوم التالي اصطحبه أطفال القرية في جولة حول المنطقة، فصوّر المعالم والعناصر المعمارية المنتشرة هناك.

وفور عودته إلى إسطنبول، بحث غولر فوجد أنها هي مدينة أفروديسياس مركز العبادة القديم المخصص للإلهة أفروديت التي ازدهرت في أواخر العصر الهلنستي والروماني، إلى جانب ذلك، كانت أفروديسياس موطناً لمحاجر الرخام الغنية ومدرسة للنحت. استعان الآثاريون والمؤرخون بهذه الصور حتى أثمر الحفر عن خروج المدينة وإدراجها من ثم على قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 2017.

جبل نمرود
جبل نمرود (من المعرض)

هذا الإنجاز ومعه رحلته إلى جبل نمرود هما من الأعز على قلبه. وقد كانت رحلته إلى الجبل أيضاً في الستينيات، وصوّر غولر هذا المعلم المدرج على قائمة اليونسكو عام 1987 برفقة التلفزيون الفرنسي، وهو يضم مقبرة المعبد وبيت الآلهة، ويشتهر بتماثيله العملاقة، بيد أن رؤوس هذه التماثيل مفصولة عن أجسادها بفعل زلازل ضربت المنطقة على مر السنين.


صحبة طيبة

حين أصبح غولر قطباً يغامر في تصوير مناطق النزاع أو رصد الحياة اليومية والعمارة والآثار بعين مثقفة، حظي بالثقة الشخصية من كبار الكتّاب والفنانين والسياسيين والفلاسفة وغيرهم من الشخصيات البارزة في عصره، وكثير منهم كانوا أصدقاء رافقوه في حياته.

يقدم لنا القسم المعنون "بصحبة طيبة" مجسماً لكتاب مصنوع يدوياً بعنوان "أساطير الدنيا السبع" ويضم صوره الملتقطة للفنانين التشكيليين الإسبانيين بابلو بيكاسو، وسلفادور دالي، والبيلاروسي الفرنسي مارك شاغال، والكاتب المسرحي الأميركي تينيسي ويليامز، والفيلسوف البريطاني برتراند راسل، والشاعر الفرنسي لويس أراغون، والكاتب المسرحي الأميركي الأرمني وليام ساريوان.

داستن هوفمان
داستن هوفمان بعدسة آرا غولر (من المعرض)

غير هؤلاء من خارج كتاب الأساطير التي أرادها في كتابه بما فيه من كلمات وتوقيعات هذه الشخصيات، يمتلئ هذا القسم بصور كثيرين كالممثل الأميركي داستن هوفمان، والشاعر الفرنسي جاك بريفير، والممثلتين الإيطاليتين جينا لولو بريجيدا وصوفيا لورين، والفنان التشكيلي التركي عابدين دينو، وزميله في حقل التصوير الفوتوغرافي الفرنسي مارك ريبو.


يافوز

إذا كان المرء لا ينتسب إلى مكان لا موتى له تحت ترابه كما في رواية "مئة عام من العزلة" فإن المكان الذي ينتمي إليه غولر هو الذي يحفظ الذاكرة، وعليه أن يبقى العنوان البريدي للأحياء وللغائبين.

ولطالما أبدى أسفه لما تعرضت له مدينته من تجريف حداثي تحوّلت في صوره إلى نزيف رومانسي. وفي واحدة من مواجهاته الموجعة عاين "نهاية البطلة"، وهذا عنوان فيلمه التجريبي (1973-1975)، عن تفكيك يافوز، تلك السفينة الحربية التاريخية التي لعبت دوراً محورياً في دخول الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914-1918).
الفيلم عبارة عن كولاج سينمائي يمزج بين مصادر متنوعة بصرية مع موسيقى تصويرية للموسيقي الشعبي الشهير روحي سو (1912- 1985) كانت تشبه صياح الفقد والتعبير عن الهاوية.

فقد صدم غولر حين علم بتفكيك هذا التراث العسكري ليعاد تدويره فقط من أجل إنشاء مصنع لشفرات الحلاقة.

آرا غولر
من المعرض

تصدرت الفيلم عبارة "في كل زمان يصنع الناس أبطالاً، لينقلبوا عليهم في ما بعد ويدمروهم بمحض إرادتهم. لماذا إذن فقد كل هؤلاء حياتهم؟ ولماذا كتبت الأغاني تكريماً ليافوز؟ وإذا كانت هذه السفينة حقًا بطلة، فكيف لها أن تفقد مكانتها وتُدمر هكذا؟".

شارك في الفيلم ثلاثة مهرجين إضافة إلى الممثلين الذين رأى غولر أنهم مشاركون أصيلون وهم: الصدأ والصوت والشمس، والحديد والخشب والمسامير.

المساهمون