آخَرُ النّص الترجمةُ

29 ديسمبر 2021
أحمد مرسي/ مصر (جزء من لوحة)
+ الخط -

"أنا آخَر". عبارة للشاعر ــ الظاهرة أرْتُور رامبو الفرنسي، حيَّرت القُرّاء والنقّاد، وقد تكرَّرتْ لديه ضِمن رسالتيْن؛ الأولى بعثها إلى صديقه الشاعر جُورْج إيزامْبارْ، وَكتبَ بعد "أنا آخَر" عبارةَ: "يُسيء كثيراً للخشب أنْ يتَكشَّف كَماناً". والثانية أرسلها إلى صديقه پُولْ دِمِني، وأوْرَد بعدها: "إذا ما استفاق النحاسُ ليجد نفسه بوقاً".

تثير عبارة رامبو الشعرية، "أنا آخَر"، من دون شكّ، قضايا كثيرة، لكنَّ ما لفت انتباهي فيها هو فكرة التحوُّل، الذي تتعرَّض إليه الأشياء، عند انقلابها من حال إلى حال، ذلك أنّ الانتقال سيرورة، وأن تَفاعُل عوامل مختلفة، منها الداخلي ومنها الخارجي، ينتهي بالشيء إلى أن يغدو آخَر، فيُوهم أنْ لا علاقةَ له بأصله.

ولا غرو أنّ الترجمةَ تُخضِعُ النصَّ، أثناء نقله من ثقافة إلى أخرى، إلى تحوُّلات عديدة تمسّ كلّ مكوِّناته، بما في ذلك إيقاعَه. والعجيب في الأمر هو أنّ المترجِم، المسؤولَ عن نقل تلك البضاعة في مركبه العجيب من فضاء ثقافي إلى آخَر، على الرغم من يقينه بأنّه ينقل البضاعة الأصلية، فإنّه يُوصِل إلى الضفة الأخرى من النهر بضاعةً أخرى ممثَّلةً في نصٍّ غريب، يختلف عمّا يُسمَّى "الأصل". ذلك أنّ النصّ الوافِد يكون آخَر، مَهْما ادَّعى ناقلُه تقيُّدَه "بأداء الأمانة فيه"، وفق عبارة الجاحظ. والأكثر من ذلك هو أنّ القارئ، والمؤسّسات الثقافية، ودور النشر تؤمن جميعُها بأنّ ما يصِلُها مُترجَماً ليس آخَر، بل هو "أصل"؛ بمعنى أنّ الجميع يَرسخ لديهم، هُمْ وغيرهم، بأنّ ذلك النصّ الضيف هو النص نفسه الذي في اللغة المنقولَة، وأنّه كان سَيُحرَّر بالصيغة نفسِها، في حال إتقانِ مؤلِّفه الأوّل للغة المنقولِ إليها.

يعتقد الجميع أن النصّ الذي يصلنا من لغة أخرى هو "الأصل"

لكنّ الواقع لا يؤكِّد هذا الزعم، من خلال أمثلة كثيرة في مجال الترجمة، على رأسها مِثال الشاعر والمترجِم الروماني پول سيلان، الذي نقل إلى اللغة الفرنسية نصوصاً كثيرة، من لغات كثيرة كان يُتقنها، والذي كان يَعترف بأنّه كان كثير التصرُّف في نصوص الآخرين، التي كان يُترجِمها بتزيينه إيَّاها، وارتقائه بها لغويّاً وتصويريّاً وإيقاعيّاً، وبكونه كان يَطبعُها ببصمته، وهو أمْر يؤكِّده نقادُه، الذين كانوا يَرَون في مُنجَزِه عبقريةً، في الوقت الذي كانوا لا يتغاضون فيه عنْ أي تصرُّف في "الأصل"، يأتيه المترجمون، في الشكل وفي المضمون، ويعتبرونه تحريفاً بل تجنِّياً.

الحقيقة هي أنّ العمل، الذي يُنجِزه المترجمون، يستحق أن يُعرَّف بكونه إعادة كتابة، لأنهُم يُعيدون كتابة "أصل" في غير لغته الأصلية، بإعادتهم خلقَه في إهابٍ مختلف، ليَصير على يديهم الشيءَ ذاتَه، ويكون مع ذلك مختَلفاً بالضرورة عن ذلك الشيء. وفِعلًا، الترجمة هي المجال الأمثل لإبراز علاقة الغَيرية بين النصّ الأصل والنصِّ المتفرِّع عنه، لأنّها كتابةٌ تكون فيها الأنا آخَرَ، وفيها تَضمن تلك الأنا وجودَها في غير بيئتها الثقافية، وتَأمَن على استمراريّتِها في الحياة.

ويبدو لي أنّ فكرة "أنا آخَر"، التي اجترحها رامبو، تَجِد تحقُّقَها الأسمى وسَندها في الترجمة، لأنّ الأخيرة التي يُطالبُها كثيرون بالتطابق مع الأصل، نجدها تُناهض هذا المَطلب، بل إنّها تجتهد على يد كلِّ المترجِمين لتنسف تلك الفكرة، لتَعَذُّرها على التحقُّق بسبب التحوُّل والتغيُّر الملازمَين لها، والذي عبَّر عنه استعارياً الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، الذي تخيَّل فرنسيّاً هو بْيِيرْ مِنَار، مؤلِّف "دون كيخّوته"، الذي آمَن، متوسِّلًا بالترجمة، بأنَّ بوُسعه أن يصير هو "آخَرَ" للروائي ثربانتِس ممثِّلِ الـ"أنا"، فانصرف مدى حياته لتحرير "دون كيخوتّه" معاصر بالفرنسية، لمّا جعل "طموحَه العجيب أنْ يُنْتج صفحات تتطابق ــ كلمةً كلمة وسطراً سطراً ــ مع ما حبَّره مِيغِل دِي ثِرْبانْتِس".

هكذا ينتهي بنا هذا التأمل إلى أن نتساءل مع الفيلسوف أُورْتيغا إِي غاسِيتْ: "ألَيْست الترجمة، لا محالة، شغفاً طوباوياً؟".


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون