"إنها وثيقة الصلة (بالأحداث) إلى درجة أنك لا تستطيع أن تفوّتها"، بهذه الكلمات تحدّث الممثل الأوكراني إيغور نيكولاييف إلى "وكالة الأنباء الفرنسية" عن العرض المسرحي "1984" الذي قُدّم الأسبوع الماضي في كييف.
يحار المرء في النظر إلى المسرحية وهو يتساءل أيّهما يستوعب الآخر ويمثّله؟ الديكتاتور الذي غزا بلداً ويصادر نُسخاً من الرواية التي كتبها الإنكليزي جورج أورويل (1903 - 1950) عام 1949، أم المسرحية الأوكرانية التي تستعيد صورة "الأخ الأكبر"، ولكن هذه المرّة على وقع القصف ودويّ المدافع الحقيقيَّين.
على خشبة "مسرح بوديل"، الذي يتّسع لقرابة 240 شخصاً فقط، كان "ونستون" بطل الرواية، يعود ليظهر من جديد، إنّما بصورة لواقع أكثر مأساوية. ورغمَ المصير الفاجع الذي لقيه بعد أن عُذّب طويلاً نتيجة شكوكه في "الأخ الأكبر"، كما جاء في الرواية، إلّا أنّه في هذه النسخة الأوكرانية، وبعد أربعة شهور من الحرب المتواصلة التي تشنّها روسيا على أوكرانيا، يبدو أنّ صيحات ألمه هي صدى لألمٍ أكبر. وإنْ كان الجمهور محدوداً أو قليل العدد، فإنّ رسالة الفنّانين الأوكران إلى شعبهم قد وصلت.
"ونستون" أو موظّف "وزارة الحقيقة" ليس ممثّلاً على خشبة وحسب، أو بطلاً في رواية، إنّما هو أبعد من ذلك بكثير. فالرواية برمّتها باتت عبئاً على النظام في روسيا، ومصدر قلقٍ وإزعاج. لا بل يُمكن القول متى لم تكن "1984" كذلك؟ إنّ شبحاً لم يُلاحِق الأنظمة الشمولية مثلها، إنّها الديستوبيا المريرة التي نُسِجَ على منوالها مراراً وكانت ملهمة لأعمال فنّية كثيرة في السينما والتلفزيون، كما تناصّت معها أقلامُ كُتّاب كثيرين حول العالم وبالأخصّ في البلدان الاستبدادية.
عبارات مُستلّة من الرواية تُرفع داخل روسيا احتجاجاً على الحرب
قد تكون مدن العالم أُصيبَت بالشلل مع الحَجر الصحي الذي عرفناه مع انتشار وباء كورونا، إلّا أنّ ما تشهده المدن الأوكرانية اليوم من حظر جعلَ العرض المسرحي حدثاً مرتقباً لدى الجمهور والممثّلين على حدّ سواء، وهذا ما عبّرَ عنه عدد من المشاركين في العمل، ومنهم يوري فليبينيكو الذي أدّى دورَ "أوبراين" العميل في شرطة الفكر، كما أنّ بعض الممثّلين قد فقدوا أصدقاء وأقارب من أهلهم في هذه الحرب، وبعضهم نزح إلى العاصمة بعد أن سقطت مدينته نتيجة الاجتياح العسكري.
ورغمَ أنّ الكثير من الأعمال الأدبية قد تناولت موضوعة الاستبداد، إلّا أنّ اختيار الفنّانين الأوكران لهذا العمل جاءَ بالتصادي مع رمزية الرواية في الداخل الروسي نفسه، حيث يمكنُ أن يجد المرء نسخات من الرواية مرميّة عمداً في أماكن عامّة بمدن كبرى في روسيا.
كما أنّ عبارات مُستلّة من العمَل باتت تُرفع احتجاجاً على الحرب، وهذا ما فعله منذ فترة مواطن روسي مناهض للغزو إذ كتب على لافتة "الحرب هي السلام"، وهي إحدى أشهر المقولات التي روّجت لها "وزارة السلام" في الرواية، والتي اختصّت واكتفت بشنّ الحروب على جيرانها. قد يكون في هذا كلّه سخرية فنّية، ولكنّه بالتأكيد وفي مبدأه الأوّل مواجهة لعنف لا مثيل له.