ليست دينا الوديدي (1987) من الفنّانين الذين يطرحون أنفسهم في أعمال مستقلّة، ليقاربوا موضوعة الذات ومشكلاتها وكفى. إذ غالباً ما تحضر القضايا العمومية في أغانيها بوصفها إطاراً، لذا نجد أنّ الكلمة عندها لا تتشكّل إلّا موظّفةً في غاية، وكأنّ لها القدرة على الفصل بين أشياء وأشياء، أو بين تواريخ قديمة وجديدة، في حين يستحوذ بخلفية المشهد حدثٌ يقلب الموازين، هناك حيث "دِين الجدعنة ودِين رفاق الدرب"، كما ردّدت الحناجر واحدةً من أشهر أغنياتها ذاتَ ثورة.
وإذا كانت الفنون التي تطرح نفسها كفنّ ملتزم أو مستقلّ أو بديل - على مختلف الشروخ المعنوية التي تُميّز بين هذه المصطلحات - تُحاول أن تقول الشيء نفسه عن "قلْب الموازين"، فإن السؤال يصبح: إلى أين وصلت تعبيراتٌ بديلة كهذه في محاولاتها؟
صعدَ اسم الوديدي مع موجة الحِراكات الاجتماعية والثورية بعد عام 2011، لتغنّي منذ ألبومها الأوّل "تدوّر وترجع" (2014) الطُّموحَ العالي والتوقّعات التي تكسر رتابة السياسة والخوف، تلك الكلمة التي تطهّرت منها القلوب والشوارع إلى حين، مستعينةً في كلّ ما سبق باستحضار الفولكلور أوّلاً، بقدر ما صبّت أغنياتِها في جملة موسيقية حداثية. وحقيقةً، من المستحيل أن تُستذكَر تلك الانطلاقة من دون أن يشعر المرء بشيءٍ من الصلابة والثقة الرومانسية التي كانت جوّاً سائداً.
تفتّش أغنياتها الأخيرة عن أمكنة خارج الواقع وثقله
مؤخّراً، أطلقت صاحبة "يللي معدّي" (2020) أغنية جديدة، من خلال قناتها على "يوتيوب"، حملت عنوان "وصول"، من كلماتها وألحانها. ويبدو العنوان - على إيجازه، كالعادة - تفاؤلياً بعد سنواتٍ مُرهِقات تحطّمت فيها الكثير من الآمال الكُبرى، سياسياً واجتماعياً. وبطبيعة الحال، لم تكن مصائرُنا الفردية بمنأىً عن تلك الخسارات، بل ارتبطت بها بقوّة.
الخلفية الإلكترونية الأثيرة، والتي طالما انطلقت منها الفنانة في أعمال سابقة، هي الوَقعُ اللحني الأوّل الذي يحضرُ في "وصول"، خاصّة بعد أن باتت تقلّل من نسبة الفولكلوري في أغانيها، الفولكلوري بالمعنى المُعاد تدويره بالإضافات المعروفة، كما في طبعتها عن "السيرة الهلالية" قبل ما يقارب العقد من السنوات.
أمّا بعد ألبومها "منام" (2019)، باتت الوديدي تنحو أكثر صوب الترميزات البعيدة عن النزعة المحلّوية الجاهزة، وتُظهر حماسة أكبر للتفاعُل مع موجات موسيقية عالمية. وهذا ينطبق أيضاً على تصوير تلك الأغاني، حيثُ تُفتّش عن مكان مختلف يُوحي بمعالم غير أرضية، ولو كان سطح القمر نفسه، أو كما سمّتهُ في شطحةٍ إلكترو-صوفية: "حضرة القمر" (2019). وصحيح أنّ "وصول" لم تُصوَّر بعد، ولكن لا يحتاج الأمر تفكيراً طويلاً حتّى نخمّن إلى أيّ الوجهات ستذهب بصرياً، في حال صُوّرت.
"ما بين محطّات السما والأرض عدّيت/ ما بين غيوم الليل بمشّي حالي بين شطّين/ ما بين نفسي بمدّ دراعاتي"، بهذه القوّة الواثقة من أنّها تستطيع أن تذرع الكون، تبدأ الوديدي أغنيتها؛ مفرداتٌ تحيلُ إلى موضوعة السفر والاغتراب، ونقلةٌ تقودُ مستمعَها إلى خارج الجغرافيا بحدودها الأرضية، كأنّها بذلك تهرب إلى مكانٍ حيثُ جاذبية الواقع الحقيقي شرطٌ ثانوي.
بالمقابل، فإنّ اللازمة التي يتردّد صداها بين المقطع والآخر، "بمدّ دراعاتي"، تبدو محاولة لجَسر تلك الهوّات البينيّة: "السما - الأرض"، و"الشطّين"، و"غيوم الليل"، ثم ما بينها هي ونفسها. وهذا ما أكّدته من خلال حسابها على "فيسبوك" عندما قدّمت أغنيتها للجمهور؛ إذ وضّحت خلفيّتها النفسية الخاصّة بعد عبورها بمرحلة من مشاعر الاغتراب والوحدة، لا بينها وبين الآخرين فحسب، بل مع نفسها أيضاً.
تُتابع الوديدي مخاطبة نفسها من خلال الآخر، وكأنّها بذلك تقتفي أثر مواساة الغريب للغريب، ذلك الطقس الأصيل في طباع البشر، إذ يلجؤون إليه كلّما شعروا بالوحشة في محاولة منهم لالتماس مؤانسةٍ ما من قرينٍ مُتخيَّل بعيد/ قريب. عند هذا الحدّ بالذات تصل الوديدي إلى بيت القصيد - ربّما - في غُنوتِها، ولمَن تمدّ ذراعيها: "للي حَبِّ واتأذى، بَقُولُّه: الطريق مشوار، والمشوار طويل، والوصول أكيد". بهذا تؤكّد الفنّانة طابع أغنيتها الذي تُعرف به، حيثُ تقولُ كلّ شيء دفعة واحدة.
مَن يُلامسهم هذا الكلام كُثر، وإنْ كان التيار أو حتى الفكرة البديلة، التي تطرحها الوديدي بكلماتها هُنا أو في مسيرتها ككلّ لا تعيش اليوم أفضل حالاتها، ولأسباب فيها من الذاتي ما يعادل الموضوعي. وعليه وقّعت الفنانة خاتمة أغنيتها بتوكيدٍ أخير دون موسيقى: توقيع صوتي فحسب "للمكتئبات والمكتئبين، للمهمومين التايهين المُغتربين... بمدّ دراعاتي".