تجربتان للتشكيلي القطري يوسف أحمد، خلال هذا العام، بدأ إحداهما في فبراير/ شباط الماضي، حملت عنوان "لين يِطْرى عليّ لوّل" (حينما يخطر لي الزمن الأول)، والثانية الأسبوع الماضي في معرضه الجديد "محلّات"، وكلتاهما تسترجع روح الدوحة القديمة، حيث طرأت تحوُّلات كبرى على رموزها المكانية.
لا تنفصل الاثنتان إلى فضاءَين، بل بدت التجربة الأولى بما فيها من بيوت وفِرجان (أحياء) ودواعيس (أزقّة) وحتى بعض الدكاكين، محفّزة لاسترجاع محلّات أغلبها انتقل من مكانه، والبعض القليل بقي مع تطوير يناسب وسط المدينة المبني على طراز حديث.
وقد تبدو اللوحات الخمس والثلاثون تفصيلاً من الدوحة القديمة، المسترجَعة في معرض سابق، لكنها حتماً أبعد من ذلك. فحيث يُقام المعرض الآن في "متحف محمد بن جاسم"، ويستمر حتى نهاية شباط/ فبراير المقبل، كانت هذه هي مشيرب، بذرة المدينة خلال عقد الخمسينيات، ومن هنا تشكّلت حاضنة خليطة في شوارع أبرزها شارعا الكهرباء وعبد الله بن ثاني.
كما لو أنه يرسم تحت شمس شتوية ما يحفظه عن ظهر قلب
توسّعَت المدينة دون حدود حاسمة بين مشيرب وما جاورها، غير أن هذين الشارعين أصبحا لستّة عقود، بدءاً من الخمسينيات، العلامةَ الأبرز لتنوّع الجنسيات، كان الحضور الواضح فيها عربياً للشوام من فلسطينيّين ولبنانيّين على وجه الخصوص.
ما الذي دفع يوسف أحمد ليستعيد صور المحلّات القديمة؟
للفنان ذاكرة بصرية وحكائية ممتازة. لم يجعل من "محلّاته" موازياً للصور التسجيلية، بل ممّا استقر في روحه. حتى إنّ بعض اللوحات رسمها قبل أن تطرأ عليها تعديلات طبيعية.
ذهب بريشة عريضة إلى الأماكن التي استقطبت من سكن داخل الدوحة وخارجها، ولذا جاءت رسوماته انطباعية، كما لو أنه يرسم في النهار تحت شمس شتوية، ما يحفظه عن ظهر قلب.
جميع اللوحات تظهر بسماء زرقاء، وهي الزرقة التي اعتادتها العين بدءاً من شهر سبتمبر/ أيلول واحتجابها في شهور الصيف.
عقب تصدير أوّل شحنة نفطية عام 1949، بدأت الدوحة باستقبال جموع من جنسيات عديدة. وستفتتح في منتصف العقد التالي أوّل محطّة كهربائية، ورُكِّب كابل كهرباء تحت الأرض، وأُطلق على الخطّ الذي يعمل بواسطة الكابل اسم "شارع الكهرباء".
ستتراجع العمارة التقليدية مع دخول مادّة الأسمنت، وستشهد المدينة شوارع عريضة، لم تكن مألوفة في الأحياء السابقة ودواعيسها، ممّا ينتمي إلى ذاكرة رومانسية، فَرضت عليها الحياة الجديدة تغييرات جذرية.
إلّا أن عقوداً ستّة تالية شكّلت لِمن هم في جيل يوسف أحمد (1953) مجالاً مؤثّراً ومفارقاً، وبؤرته الخصبة هي مشيرب.
عليه، فإنّ استحضار المحلّات غير التسجيلي، إنّما هو استحضار لشريط من الحركة والأنفاس والوجود الذي تواصل على يد من أصبحوا سلالات، بعضهم أجداد على قيد الحياة يتذكّرون، هم أنفسهم في ذلك الزمن شباب يحلمون.
ثمة صور فوتوغرافية مشهورة لكثرة تداولها، بيد أن الفنان عرف من أي زاوية جديدة يمكنه أن يفعل شيئاً مغايراً.
ربما لا تجد في المدونات التاريخية أو الفنية اسم "إدوارد"، إلا أنّه حاضر مع سميّه الخطّاط يوسف أحمد قبل أن يكون التشكيلي المعروف.
ليست اللوحات موازياً للصُّوَر، بل هي ممّا استقر في روحه
هذا الرجل اللبناني، إدوارد، هو من كتب منذ الخمسينيات الكثير من الآرمات التي بدأت تحتشد في وسط البلد.
فتحت تجربة "لوحات" شهية الخطاط في تحية لإدوارد الذي غادر عالمنا أواخر عقد السبعينيات.
محلّات ليست بسيطة إلّا حينما تقارَن بتحوّلاتها واتّساعاتها فيما بعد. في ذلك الوقت كانت هي كل ما يُمثّل مستلزمات الحياة. وهذا لا يتوافر في "المول" المعاصر، وما يفضّله من بطاقات ائتمانية وبطاقات الصرّاف الآلي.
هنا "مطعم بيروت للحمص والفول والفلافل"، ومقابله "بقالة صيدا". هنا "محلّ شهاب للأقمشة"، وهناك محلّ "أحذية يافا"، وهنا "معصرة الربيع"، و"متجر الطائف"، و"استوديو السلام"، و"دكّان عباس"، و"البيت الحديث"، و"صفّار الفريج" (مبيّض النحاس)، و"دكّان الساعي"، و"مخبز الجسرة"، و"مصنع الثلج"، و"صيدلية الباكر"، و"دكّان حاجي غلوم"، و"نوفوتيه فونتانا".
تأتي الجموع كل يوم، بحثاً عن أغراضها، لكنها تحتشد يوَمي الخميس والجمعة، في ساحة مستطيلة بحذاء الشارع المفضي إلى البنك العربي وسوق واقِف. أمامك شارعان، على اليمين "عبد الله بن ثاني"، وعلى اليسار "شارع الكهرباء"، وكلاهما كان على الجنبين محلّات تستقبل شارياً، أو جائعاً، أو أياً كان يتقاسم مع صاحب المحل صفة واحدة: كلانا صاحب حاجة، أقرب إلى الوضوح، وأبعد كثيراً عن النزوع الاستهلاكي.
قيل في بعض تخيُّلات أو أوهام أو حسابات تجريدية لم تُحقّق بعد، إنّ الأصوات لا تزول، بل تبقى عالقة في طبقة من طبقات الجو.
هذه آرمة "الجمهورية العربية المتّحدة". من الواضح أن مفتوناً بتلك الجمهورية التي تأسّست عام 1958 بين مصر وسورية، قرّر أن يجعلها اسماً لبقالته.
لا نعرف من خطّ الآرمة. ربما إدوارد، وربما غيره. من صاحب البقالة؟ هذا ليس مجال تحقيق استقصائي.
للفنّان أن يمرّ بريشته، ويترك نفسه والآخرين أن يسعوا وراء أصواتهم، التي ليست حتى الآن في أي طبقة جويّة، بل في دواخلهم حين يصيخون السمع صامتِين.