بعد إغلاق لقرابة عقدين، انبعثت من رمادها، قبل أيّام، "فيلّا هاريس"، التي بناها المراسل الصحافي البريطاني والتر بورتون هاريس (1866 - 1933) نهايةَ القرن التاسع، لتحمل اسماً ومهمّةً جديدين: "متحف فيلا هاريس". متحفٌ أُعلن عن افتتاحه بعد سنواتٍ من أعمال الترميم، وذلك سعياً من "المؤسسة الوطنية للمتاحف" في المغرب إلى "تزويد كلّ مدينة بمتحف، وإثراء المشهد الثقافي لمدينة طنجة بفضاء متحفيّ جديد يتّخذ من فيلا هاريس مقرّاً له"، بحسب بلاغ لمدير المتاحف الوطنية محمد قطبي.
هذا المبنى التاريخي، الذي شيّده لنفسه والتر هاريس أثناء إقامته في طنجة مراسلاً لمجلة "التايمز" البريطانية، على مساحة تغطّي تسعة هكتارات، مزوّدٌ بحديقة تضمّ أنواعاً مختلفة من النباتات. وقد استقبل هاريس في مكان إقامته هذا، في قلب طنجة، العديد من النخب السياسية والديبلوماسية والأشخاص ذوي النفوذ، بل وحتّى الجواسيس. وقد كانت طنجة، في ذلك الوقت، واحداً من المختبرات المؤثّرة في صنع الأحداث الكبرى.
يستضيف المتحف مجموعةً من الأعمال الفريدة، تبرّع بها جامع الأعمال الفنّية، الخليل بلكنش، لفائدة "المؤسسة الوطنية للمتاحف". ويقترح المعرض الافتتاحي الذي يقدّمه المتحف مساراً يلخّص تاريخ الفن في المغرب، وذلك عبر أربع مراحل، تمتدّ من الارهاصات الأولى التي تمثّلت في وصول الفنّانين الغربيين الأوائل، مثل أوجين دولاكروا وجاك ماجوريل، حتّى أعمال الفنانين المغاربة المعاصرين.
ويشكّل هذا المقترح فرصةً للاطّلاع على عدد من لوحات بعض كبار فنّاني أوروبا في بداية القرن العشرين، ومن أعمالٍ وقّعتها الأجيال الأولى من الفنانين المغربيين، الذين حاولوا صياغة هوية فنية مغربية، كمحمد بن علي الرباطي ومحمد السرغيني، مروراً بالجيل الذي أرسى معالم الحداثة المغربية، كأحمد الشرقاوي والجيلالي الغرباوي وغيرهما، وصولاً إلى أسماء من الأجيال المعاصرة.
القسم الأول من المعرض مخصَّصٌ، إذاً، لأعمال بعض الرسّامين المستشرقين، الذين أنجزوا في المغرب عدداً من لوحاتهم، في نهاية القرن التاسع عشر. من هؤلاء ــ إضافة إلى ماجوريل ودولاكروا ــ إيدي لوغران، وكلاوديو برافو، وجاك فيراسات.
ويركّز القسم الثاني على الجيل الأوّل من الفنانين المغاربة الذين احتكّوا بفنانين أوروبيين عن قرب، مثل محمد بن علي الرباطي الذي اشتغل مع البريطاني جون لافيري، أو محمد بن علال الذي عمل جنباً إلى جنب مع جاك آزيما، أو أحمد اليعقوبي الذي اكتشفه الكاتب الأميركي بول بولز.
افتُتح المتحف بمعرَضٍ يلخّص تاريخ الفنّ في المغرب
لكنّ المرحلة التأسيسية للفن المغربي تمثّلت في إنشاء أول "مدرسة وطنية للفنون الجميلة" في تطوان بمبادرة من الإسباني ماريانو بيرتوتشي. وقد أتاح التكوين الفني الاحترافي للجيل الأوّل من المستفيدين منه إحداثَ ثورة في المشهد التشكيلي، تجلّت على مستوى الممارسة والأفكار والأطروحات التي تمّت مناقشتها مِن قبل العديد مِن هؤلاء المتخرّجين من المدرسة بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، كأمثال محمد شبعة، والمكّي مغارة، وفريد بلكاهية.
أما القسم الثالث، فيتوقّف عند المرحلة الحاسمة التي شهدها الفنّ في المغرب في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، والتي تضمّنت العديد من المقاربات التشيكلية والمفاهيمية والنظرية، التي تمّ طرحها في خضمّ النقاش المرافق لمرحلة الاستقلال حول تلاقح الثقافات، والتي شاركت فيها أسماءٌ فنية استكملت تعليمها الأكاديمي خارج المغرب، واستفادت من قربها من البانوراما الثقافية والفنية العالمية.
وشهدت هذه المرحلة بروزَ العديد من الفنانين، كأحمد الشرقاوي، والجيلالي الغرباوي، وفنّاني "مجموعة الدارالبيضاء"، مثل محمد المليحي، وفريد بلكاهية، ومحمد شبعة، ومحمد نبيلي، انتهاءً بموجة ثانية من الفنانين أمثال ميلود لبيض، ومحمد بلامين، ومحمد القاسمي، ومصطفى بوجمعاوي، وفاطمة حسن، ومحمد الإدريسي.
ويسلّط القسم الأخير من المعرض الضوءَ على أعمال معاصرة لأجيال الشباب التي حاولت الخروج من القيود الجمالية والأيديولوجية، مستفيدةً من الوسائط الإبداعية الجديدة، في مسعى لتكريس هويّة فرديّة، متحرّرة ومستقلّة.