خلال الفترة الواقعة بين ثلاثينيات وستينيات القرن العشرين، وبفضل مصنع إفيريا ومبادرة ثقافية واجتماعية خرجت من رحم "حركة المجتمع" التي أسّسها بنفسه، نجح الإيطالي أدريانو أوليفيتي (1901 - 1960)؛ رائد الأعمال والصناعي والمبتكر والسياسي في تحقيق رؤيته لمشهد حضري يسير فيه التحديث الصناعي والتقني جنباً إلى جنب مع إعادة تنظيم للحيز المناطقي والاجتماعي والثقافي.
تأسيساً على أهمية الإرث الذي خلّفه أوليفيتي وارتباطه بواقعنا، إلى جانب إدراج إفيريا (شمال مدينة تورينو) مدينة صناعية من القرن العشرين ونمطها المعماري الأكثر تميّزاً ضمن قائمة "يونسكو" للتراث العالمي في الأوّل من تمّوز/ يوليو 2018، يُقام حالياً معرض "عالم أوليفيتي: المجتمع المثالي" في "بيت محمد بن جاسم التراثي" بـ "متاحف مشيرب" وسط الدوحة، ويستمر حتى السابع من كانون الثاني/ يناير 2023.
أعدّ المعرضَ "متحف روما لفنون القرن العشرين" و"مؤسّسة أدريانو أوليفيتي"، ويضمّ سلسلة من المواد الأرشيفية والقطع التي "تجسّد العمق الأخلاقي والحداثة العظيمة للرؤية والريادة الإيطالية، التي كانت الأساس لنشأة شركات التكنولوجيا العالمية الرائدة خلال القرن العشرين"، وفق بيان القائمين على المعرض.
مختبر تجريب
أضحت مدينة إفيريا مختبراً لتجريب نموذج مبتكر في التفاعل بين مجالَي الأعمال والمجتمع، ولا يزال يُنظر إليه بوصفه مثالاً يُحتذى حتى زمننا الحاضر، إذ جمع بين عناصر الثقافة والبحوث التكنولوجية والتصميم والعمارة والاستدامة.
تأسّست شركة أوليفيتي الصناعية عام 1908 من قبل كاميلو أوليفيتي (1868 - 1943) والد أدريانو، وصنعت الشركة الآلات الكاتبة والآلات الحاسبة الميكانيكية وأجهزة الكمبيوتر المكتبية.
لكنّ ثورة اليوتوبيا التي بدأت في أوائل الثلاثينيات توسّعت مع أفكار "حركة المجتمع" التي تأسّست في إفيريا عام 1947 بناءً على كتاب أوليفيتي "النظام السياسي للمجتمعات" الصادر عام 1945.
نموذج مبتكر في التفاعل بين مجالَي الأعمال والمجتمع
كان يمكن لمس الأفكار باليد، وقد نهلت من ينابيع أفكار كالتي طرحتها "حركة باوهاوس" في ألمانيا، إذ لم تكن الإنتاجية الواسعة بسبب ضغط البشر في وسائل الإنتاج، بل لأن بيئة العمل أسّست مثالاً لمدينة صغيرة يشتغل فيها صنّاع الآلات بأجور عالية، وضمانات رعائية، وفي مبانٍ زجاجية مفتوحة على الطبيعة، مثلما هي مفتوحة للمارّة في الشارع ينظرون إلى ما يُنجز أمامهم.
كما يمكننا التعرّف إلى المركز الثقافي الذي أسّسه أوليفيتي واستضاف العديد من الكتّاب والفنّانين ومنهم الكاتب باولو فولبوني، كما تُظهر إحدى الصور الشاعرَ والمخرج بيير باولو بازوليني عام 1957 في ضيافة المركز.
مسار مئة عام
يتتبّع "عالم أوليفيتي" المسارَ التاريخي لشركة إيطالية استمرّت لما يقرب من مئة عام، تمزج بين الموضوعات الكبرى التي طبعت القرن العشرين، حيث يترافق الابتكار وجودة المنتجات ونموّ أنشطة الشركة في الأسواق الدولية مع التميّز في العمارة والتصميم الصناعي.
وتسهم كل هذه العناصر مجتمعةً في حثّ عملية تخطيط دؤوبة لا تكلّ، مستهدفةً معالجة مشكلات اجتماعية فرضها العمل وطبيعة العلاقة بين مجال حركة الأعمال والمنطقة المحلّية لتتمخّض في نهاية المطاف عن مشروع شامل يضمّ السياسة والتخطيط الحضري على حد سواء.
يقوم معرض "عالَم أوليفيتي: المجتمع المثالي" على أربعة أقسام (المدينة والسياسة، المصنع، الثقافة والصورة، المجتمع)؛ حيث تظهر بوضوح رؤية أوليفيتي في جميع جوانبه وأبعاده وتعقيداته. من خلال عروض بيانية ووثائق أرشيفية وإعادة تفسير لصور فوتوغرافية، تظهر أهمية شخصية أدريانو أوليفيتي.
يبدو المصنع في عالم هذا الرجل القوّة الدافعة لمشروعه الإصلاحي، ذلك المشروع الذي اتّسم بأنه ريادي وسياسي وثقافي واجتماعي في آن واحد. لقد شيّد أدريانو "مجتمعه" بأن جمع حوله ألمع العقول في إيطاليا ما بعد الحرب من معماريّين وفلاسفة ومصمّمين ومفكّرين ومهندسين.
كان من الذين تناولوا مبكّراً قضايا البيئة. لقد نبّه إلى أن الموارد الطبيعية ناضبة، ما دفعه لاتخاذ إجراءات مباشرة بشأن المبادرات التي اعتبرها مفيدة للمجتمع.
ترصد الصور الفضاءين المادي والمعنوي في عالم أوليفيتي
وبحلول منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، كان صنّاع الشركة يقودونها إلى رسم معالم "أسلوب" أوليفيتي من جهة، ومن جهة أُخرى إلى اتخاذ أُولى الخطوات الرائدة في اتجاه تطوير الإلكترونيات وعلوم الحاسوب بإنتاج أول حاسوب شخصي.
وها هم علماء وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" كانوا من بين السبّاقين إلى إدراك كنه هذه الإمكانات الضخمة، فاستفادوا منها في تجميع خرائط للقمر وتخطيط مسار رحلة المكّوك "أبولو 11" في مهمّته التي تكلّلت بخطوة البشر الأُولى على سطح القمر عام 1969.
حملة فوتوغرافية
لوكا كامبيغوتو، وكلاوديو غوبي، وفرانشيسكو ماتوزي، وفالنتينا فانيكولا، أربعة مصوّرين إيطاليين انطلقوا في حملة تصوير فوتوغرافي يشكّل نتاجها تتمّة لبرنامج المعرض.
استجاب الفنّانون الأربعة للدعوة إلى رصد الفضاءين المادي والمعنوي في عالم أدريانو أوليفيتي الذي شيّده في مدينة إفيريا، وتقديمه عبر كاميراتهم من منظورات مختلفة وبلغات تعبيرية متنوّعة.
ولكن ثمّة نقطة التقاء جامعة لمشروعاتهم تتمثّل في اختيارهم الابتعاد عن تصوير كلا الفضاءين من زاوية موضوعية عقيمة أو بمحاولة استيعاب عناصرهما الكاملة، بل يضربون صفحاً عن سطح الظاهر، وينفذون إلى عمق الباطن لاستجلاء غموض الواقع الكامن وراء التصويرات المعيارية لمثل هذه الأماكن.
ولئن كانت أعمال هؤلاء الفنّانين تنتهج مقاربات محدَّدة بالفعل بين وثائقية وتصوّرية ومحاولة لالتقاط ملامح الحياة اليومية وحتى الإبداع السردي الخالص، فكل منها يستلهم مادته من بعد مختلف: عالم سرمدي تتفاعل فيه الصور وتتواصل مع بُعد ميتافيزيقي (كامبيغوتو)، وتسلسل ديالكتيكي من الإحالات الشكلية والثقافية، (غوبي) وملمح ملغز من ملامح الواقع (ماتوزي)، وعالم تخيلي مواز (فانيكولا).
انحيازات ذاتية
يتحاشى الفنّانون أسلوب السرد الوصفي التلقيني ويستحضرون انحيازاتهم الذاتية بديلاً عنه، فهم ينشدون مقاربة مدينة إفيريا من منظورات تُجدّد منابع أفكارنا وتوقد جذوة مخيّلاتنا. إن التصوير الفوتوغرافي الفنّي لا ينتهي مأربه عند مجرّد وصف الشاكلة التي تبدو عليها المرئيات، بل يأخذنا معه إلى آفاق أبعد بكثير.
وبدلاً من انتهاج مقاربة وثائقية في التصوير، تجسّد أعمال كامبيغوتو إحساساً بتباطؤ الزمن، وفي اختياره التصوير ليلاً تتجلّى الطاقة الإيحائية الكامنة والباعثة لذكريات ماضي المكان.
بدوره يدفع كلاوديو غوبي حدود التصوير الفوتوغرافي الوثائقي صوب مقاربة تصوّرية ينشئ من خلالها تسلسلاً مفتوحاً يستند إلى منظومة علاقات تتنقل من البصري إلى الثقافي: المعالم، الأقواس، الشقوق والأعمدة، النوافذ والدرابزينات، تتآلف جميعها لتُشكّل لغة من الرموز المعمارية، فتمنح الصور القدرة على أن تُحدّث إحداها الأُخرى، وتقيم حواراً فيما بينها يحمل الناظر على التأمّل في البعد الزماني للأماكن والمرئيات.
ويستكشف فرانشيسكو ماتوزي المدينة كما لو كانت جسداً، ينظر في ثناياه ويلمس أعضاءه ودلائل الحياة المبثوثة في أوصاله. ثمّة سمات لا يدرَك كنهها تطبع ملامح الحياة اليومية: أغراض مهجورة تبعث مشاهدتُها شعوراً بالوحشة وأشكال متلاشية تعبر إلى فضاء غامض، وفراغات بين البنايات تصنع مناظر طبيعة غير معتادة، فتضفي لمسة من الغموض على الفضاءات المعاصرة.
معركة البرتقال
يبدأ مشروع فالنتينا فانيكولا من الموت المفاجئ لأدريانو أوليفيتي، في 27 شباط/ فبراير 1960، عندما جرى تعليق مهرجان "معركة البرتقال" التقليدي للمرّة الأولى، باستثناء حدوث الأمر ذاته زمن الحرب.
والمعروف أن أوليفيتي مات بسكتة قلبية أثناء سفره بالقطار إلى سويسرا عن عمر 59 عاماً، غير أن عدم تشريح جثّته فتح المجال لتفسيرات مؤامراتية.
تستعيد فانيكولا رمزياً البرتقال الذي لم يُستخدم في هذه المناسبة وتنثره في عدد من الفضاءات الأكثر تعبيراً عن مدينة أوليفيتي: المصنع، والخدمات الاجتماعية، والورش، ومنطقة كانافيزي. وسواء أكانت خاوية أم مأهولة بأشكال تجمّدت في ذاكرة الزمن فإنّ هذه الأماكن تتحوّل إلى "حاضنات ثورة" مستمرّة وإن كانت صامتة.
يستقبل المعرض زوّاره في "بيت محمد بن جاسم" بـ "متاحف مشيرب" من الإثنين إلى السبت، من التاسعة صباحاً إلى الخامسة مساء، وأيام الجمعة من الثالثة بعد الظهر وحتى التاسعة مساءً.