حين احتلّ الإمبراطور الروماني، أغسطس، مصر عام 30 قبل الميلاد، نُهبت آلاف القطع الأثرية على يد جيشه ليتمّ إرسالها إلى روما، لكنّ الغازي وقع أسيراً في ثقافة مَن هزمهم، فدُمجت الآلهة الفرعونية ــ مثل إيزيس وحورس ــ في العقائد الرومانية، بالإضافة إلى التأثُّر الكبير بالعمارة والفنون والحرف المصرية.
استمرّ هذا التأثير في أوروبا لقرون عديدة، وكان أبرزه الاهتمام بكليوبترا التي أنهى أغسطس حكمها وتجلّى ذلك في مسرحية شكسبير المعروفة، وصولاً إلى "أوزيماندياس" التي كتبها بيرسي شيلي في قطعتين شعريتين مستمدّاً مضمونهما من حياة الملك رمسيس الثاني الذي اكتُشف تمثاله في تلك الفترة.
يوثّق معرض "رؤى مصر القديمة"، الذي افتُتح أخيراً في "مركز سينسبري للفنون البصرية" بمدينة نورويتش البريطانية ويتواصل حتى الأول من كانون الثاني/ يناير المقبل الانجذاب الدائم للحضارة الفرعونية في الفن والتصميم الغربيين، من الماضي إلى اليوم.
يستكشف المعرض كيفية تشكيل مصر للمخيال الثقافي في الغرب
يستكشف المعرض كيفية تشكيل مصر للمخيال الثقافي في الغرب والعالم كلّه على مدار مئات السنين، بالتزامن مع الذكرى المئوية الثانية لفكّ رموز اللغة الهيروغليفية من قِبَل الآثاريّ الفرنسي جان فرانسوا شامبليون، والذكرى المئوية الأولى لاكتشاف هوارد كارتر مقبرة توت عنخ آمون.
يشير المنظّمون إلى أن المؤرخين الأوروبيين طوّروا نظرتهم إلى مصر القديمة باعتبارها جزءاً من قصّة غربية وليست قصّة أفريقية، وتجلّى ذلك خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إذ اعتبرت القوى الأوروبية الكبرى أنها تمثّل امتداد التراث المصري، ما دفعها إلى التنافس في ما بينها على استعمار أرض النيل، وكان في مقدّمة أهداف حملة نابليون، ومن بعده الاستعمار البريطاني، بموازاة نشاط مكثّف لبعثات التنقيب الإيطالية والألمانية والأميركية وغيرها، الاستحواذ على المقتنيات الأثرية.
كما يضيء المعرض ظهور مفهوم "إيجيبتومانيا" (الهوس بالمصريات) في تلك المرحلة، المبني على انبهار حضاري تعود بداياته إلى زمن الإغريق، ويُبرز أكثر من مائة وخمسين عملاً معروضاً من رسومات ومنحوتات وتصاميم الموضة والعمارة والفوتوغراف والأفلام، أن هذا الإيجيبتومانيا لم تكن مجرّد مفهوم جمالي، إنما عبّرت عن دوافع استعمارية تقوم على أن امتلاك الفنون المصرية يمنح قوّة وهيمنة سياسية، وأن أيقوناتها يمكن أن تحمل معانيَ جديدة، مثلما تمّت استعارتها في نقوش المعماري الإيطالي جيوفاني باتيستا بيرانيزي، وتصميم العديد من معالم بريطانيا الفكتورية كجسر كليفتون المعلّق أو في الزخارف التي توجد في معظم المحافل الماسونية حول العالم، أو في صناعة المجوهرات والأثاث حتّى مطلع القرن العشرين.
في مرحلة لاحقة، ظهرت موجة ثانية من التأثّر الغربي بالحضارة المصرية مع اكتشاف قناع توت عنخ آمون عام 1922، في أعمال فناني الحداثة، فاستوحى ألبرتو جياكوميتي الجسد الفرعوني في منحوتاته ذات القوام النحيل جدّاً، واقتبس بابلو بيكاسو من أساليب الرسم المصري القديم، وتأثّر ديفيد هوكني بالمشاهد البانورامية في معابد الأقصر التي زارها أكثر من مرّة، وانعكست في لوحاته "انتظار البرابرة" و"مصري يتّجه نحو الغيوم المتلاشية" وغيرهما.
تُعرض أيضاً لوحات لفنّانين أميركيين من أصول أفريقية استحضروا الرموز الفرعونية في سياق صراعهم الطويل لنَيل حقوقهم المدنية، باعتبارها جزءاً من موروثهم الأفريقي، وكذلك رسوم الكاريكاتير التي اشتهرت بها مجلة "بانش" الساخرة في بريطانيا في نهاية القرن التاسع عشر، متأثّرة بالشخصيات الفرعونية التي رسمها يعقوب صنوع في مجلته "أبو نضارة" التي أسّسها عام 1877 وانتقد فيها فساد الطبقة الحاكمة آنذاك.
يتضمّن المعرض أعمالاً لعدد من الفنانين المصريين من أجيال مختلفة، ومنهم شانت أفيديسيان وسارة سلام وخالد حافظ وغيرهم ممّن وظّفوا الميثولوجيا المصرية كجزء من الهوية المعاصرة لبلادهم، التي تأسّست على واحدة من أقدم الحضارات التي عرفت الكتابة وحكم القانون والأنظمة السياسية والإدارية، من زاوية نظر مختلفة لـ"القوّة" ذاتها التي سعى الغرب لتملّك آثارها المادّية وإعادة سرد روايتها التاريخية.