"ديفيد هوكني وماتيس": أن تمنح العالَم ألواناً غير ألوانِه

25 يوليو 2022
من المعرض (جوليان فيران)
+ الخط -

عندما رأتْ عينا ديفيد هوكني النور في برادفورد بالمملكة المتّحدة، عام 1937، كان التشكيلي الفرنسيّ هنري ماتيس (1869 ــ 1954) فنّاناً يُعترَف بتجربته واستثنائيّتها عالمياً، وذلك منذ عام 1924، الذي شهد إقامة معرض استعادي ضخم له في نيويورك.

لكنْ عند التحاق هوكني، نهاية الخمسينيات، بـ"الكلّية الملكية للفنون" في لندن، سيكون ماتيس قد تحوّل إلى ما يُشبه التجربة الكلاسيكية، التي تُدرَس للاطّلاع واتخاذ العبَر منها، وليس بالضرورة للاقتداء بها. ذلك أن الموضة كانت في ذلك الوقت ــ أي في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات ــ لتيّارات ورؤى مثل الفن الحضريّ، والفن "المفهوميّ"، والأدائي، إلى البوب آرت، الذي سيعتنقه هوكني كرؤية، قبل أن يصبح من أبرز أسمائه في يومنا هذا.

هذا البُعد البادي بين تجربتَيْ الفنانَين هو الذي يسود في السردية الشائعة عن العلاقة بينهما. سرديةٌ يأتي "متحف ماتيس" في مدينة نيس الفرنسية (جنوب) ليخلخلها، مقترحاً تقارباتٍ عديدة بينهما، من خلال معرض "هوكني ــ ماتيس: نعيمٌ مُستعاد"، الذي افتُتح في التاسع من حزيران/ يونيو الماضي، ويستمرّ حتى الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر المقبل. تقارباتٌ يجد زائرُ المعرض نفسَه في صُلبها بمجرّد دخوله إياه، حيث تستقبله أعمالٌ يشتركان ضمنَها في تصوير اللذّة، ممثّلةً بالماء، كما في لوحة "الموجة" لماتيس، وفي لوحات هوكني العديدة، والمشهورة، عن المسابح الكاليفورنية.

في الطبيعة الميتة يبدو التقارب بين الفنانين في أكثر درجات وضوحه

ولا يطول الوقت قبل أن يكتشف الزائر، أو يتذكّر، أنه أمام اثنين من أبرز الملوِّنِين في التشكيل الأوروبي خلال القرن والنصف الماضيين. فاللوحة، هنا وهناك، تكفّ عن كونها تصويراً ــ رغم أنها، في العمق، كذلك ــ لتصبح إعادة خلق للمشهد الذي يتلقّى ألوانه الجديدة، وتدريجاتها، من جهةٍ لا نعلمها. تماماً مثل ذلك البنفسجيّ الذي يعثر عليه هوكني، كلَّ مرّة، في أغصان الأشجار، وفي قيعان المسابح أو قُرب أصص الأزهار.

هنا، في رسْم ما يُعرَف بالطبيعة الميتة، يبدو التقارُب بين الفنانَين في أكثر درجات وضوحه، حتى إننا نخال، لوهلة، أن هوكني لا يرسم انطلاقاً من زهور وُضعت أمامه، بل من ذكرى للوحة لماتيس، أو أنه يرسم وإلى جانبه أعمالٌ (أو نسخ أعمال) للفنان الفرنسي.

كل هذا يُحيلنا ــ كما يشير منظّمو المعرض ــ إلى أن التشكيلي الإنكليزي لم ينقطع يوماً عن العودة إلى أعمال المعلّم الفرنسي. بل إن بعض اللوحات التي يقترحها المعرض تكشف عن "مُعارَضة" متقصّدة، أو استعادة، على شكل تحيّة، من هوكني لماتيس. الفرق الوحيد، ربما، قد يتمثّل بالموديل: فبينما كان ماتيس وفيّاً لتقليدٍ تشكيلي طويل يتّخذ من المرأة، من جسدها، نموذجاً للرسم، فإن هوكني يرسم أجساد رجال، رجال يعرفهم ويحبّهم غالباً.

على أن التقارب بين الفنانين يعود ليسود الواجهة في نهاية المعرض، حيث نتذكّر أن كلا الفنانين عرف "ثورة" تقنية كبيرة في نهايات تجربته: ماتيس الذي لجأ إلى العمل بالمقصّ، بدلاً من الريش والزيت والألوان، في شيخوخته، لأسباب طبّية، وهوكني الذي يعمل، منذ سنوات، على آيباد صُمّم خصّيصاً ليرسم عليه.

المساهمون