"دفاتر الوراق" لجلال برجس: رواية على رواية

29 اغسطس 2021
من عمل لـ حسين ماضي / لبنان
+ الخط -

"دفاتر الورّاق" للأردني جلال برجس، الصادرة عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، هي الرواية الفائزة بجائزة "بوكر" العربية لهذا العام. "دفاتر الورّاق" هي فعلاً دفاتر، لا للورّاق وحده، ولكن لرُواتها العديدين، إذ يمكننا أن نميّز بين الروايات العديدة التي تقطن فيها. هذه ليست فقط روايات، ولكنها تقريباً أساليب، بل وحتى أجواء شتّى، بحيث إننا نخرج من تجربة إلى أُخرى، وبحيث إنّنا نجد أنفسنا أمام كتابات متعدّدة. نحن في البدء أمام الرواية الأم، الرواية الأساس، التي لا تلبث الروايات الأُخرى أن تنصبّ فيها.

الرواية الأم، إذا جاز التعبير، هي رواية الورّاق الذي، بعد أن تكالبت عليه الأمور وانتحر أبوه، تُخامره هو الآخر رغبة بالانتحار. ليس الأمر هنا فحسب، لكن الورّاق ليس واحداً، إنه اثنان لا ينفكّان يتحاوران في داخله. واحد يحثّ الآخر على أن ينتحر، بل ويحثّه على أن يبدّل حياته ويقوم بمغامرة أخرى، قد تكون القتل نفسه. نحن هنا أمام شخص سيكوباتي، أمام شيزوفرينيا معلنة، هذا ما يخطر ونحن نسمع الشخص الثاني يتكلّم في الرواية. مع ذلك فإننا لسنا أمام رواية بسيكولوجية، إذ إن هذا الشخص الثاني يكاد يملك وجوداً موضوعياً. سيبقى موجوداً طوال الرواية، لكنه يكاد يتبدل هو الآخر معها، بل تتغير لهجته نفسها، فإذا كنا قد بدأنا معه بفكرة الانتحار، فإننا، مع بقائنا عليها، سنتجاوزها أو نكاد.

مع ذلك ليس الورّاق هو الشخصية الوحيدة. فإلى جانبه هناك ليلى ابنة الملجأ الذي لا يلبث أن يلتقي بها، وهنا نون الصحافية التي لها أيضاً دفترها وروايتها التي ترجع إلى سقوط فلسطين وإلى هزيمة 67. نحن إذاً أمام أكثر من دفتر، أكثر من رواية، بل وأكثر من راوية. لكن إذا عدنا إلى الرواية الأم نفسها، رواية الشيزوفريني، لن نعثر أيضاً على رواية واحدة. بل نحن حتى في الرواية نفسها أمام روايات شتى، بل وأمام أساليب ومناخات مختلفة.

سرد يلتفّ على نفسه ويعود إلى أوّله من دون أن ينتهي

هناك في البداية نشيد الانتحار، وحوار الشخصين داخل شيزوفرينيا الراوية الأساسي. سيكون ذلك عبارة عن لغةٍ وَسْواسية وأسلوب عارٍ وصراع أفكار. لكن هذا لن يستمرّ، لن تغادر الورّاق فكرة الانتحار ولن يتوحد الاثنان المتحاوران المتصارعان في داخله. مع ذلك لا نزال نشعر بأن هذا كلّه يكاد يتراجع إلى الظل، يكاد، مع بقائه واستمراره، يغدو جانبياً أو خلفياً. نحن في هذه المرحلة الثانية ننتقل إلى مناخ آخر وأسلوب ثانٍ، بل ننتقل إلى عنوان آخر ومحور جديد. فالشيزوفريني، الذي توقّفنا طويلاً عند وَسْواسه الداخلي، يتحوّل إلى متقمص لشخصيات من روايات: سعيد مهران من "اللصّ والكلاب" لنجيب محفوظ، كوازيمودو من "أحدب نوتردام"، مصطفى سعيد من "موسم الهجرة إلى الشمال". ليست هذه الشخصيات وحدها، ولكن من ورائها شخصية أخرى، شخصية اللص الشريف روبن هود وسعيد مهران.

سنكون هكذا أمام سرد آخر وأمام تخييل آخر ومناخ مختلف. الشيزوفريني الذي عاد إلى الحياة من رحلة الانتحار التي جمعته بنون، يتحول الآن شخصاً ثانياً. من الانتحار، الذي هو فكرة جرداء، ينتقل إلى اللصّ الذي هو مغامرة عارمة، لكنه في الوقت نفسه يتقمّص شخصيات من روايات. قد لا نفهم بسهولة كيف يكون كوازيمودو ومصطفى سعيد وروبن هود في آن معاً. كيف يكون اللصّ، ولكن بشخصيات من روايات أخرى. لا نفهم جليّةً ذلك، لكننا الآن أمام الرواية الثانية داخل الرواية الأم، أمام رواية أخرى، بإيقاع وجو وسرد مختلف.

هكذا نجد رواية على رواية، لكن الأمر لا يقف هنا. اللص الذي يقع أخيراً في الفخ، حين تمتدّ يد ليلى صديقته إلى قناعه وتنكشف جريمته، لا نلبث في الصفحات الأخيرة، في صفحتين تقريباً، أن نكتشف أنه قد يكون قاتلاً، بل قد يكون قاتل أبيه. قد يكون هو الذي دفع كرسي أبيه المعلّقة رقبته في المشنقة. قد يكون هو قاتل الشاموسي الذي نكتشف الآن أنه أبوه ومع والده زمرة من شخصيات أخرى، طالما تردّدت أسماؤها في خواطره الوسواسية. هذه، ولو بصفحات قليلة، رواية جديدة. 

بالإضافة إلى الشيزوفريني واللصّ، هناك الآن شخصية القاتل، التي لا نعرف إذا كان لها واقع، أو أنها وسواس يعيدنا إلى الشخصية الشيزوفرينية، أي إلى الرواية الأولى. هكذا نعود إلى البداية في رواية ليست فقط روايات على روايات، بل هي أيضاً تلتفّ على نفسها وتعود إلى أولها، دون أن تنتهي. تغدو الرواية في البداية شخصين في واحد ثم شخصيات آخرها القاتل، فنسمع أو نتوجّس أننا نسمع، على طول الرواية، هذيان الشيزوفريني.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون