كان يُفترض بالخبر أن يمرّ مرور الكرام. خبرٌ ظهَر على صفحة "دار الكتب الوطنية" في تونس، نهاية الشهر الماضي، ومفاده أنه قد جرى تخصيص فضاء لليافعين فيها. لا شيء أبسط من أن تفتح المكتبات أبوابها للزائرين مهما كانت أعمارهم. لكن، ومع "دار الكتب الوطنية" في تونس بالذات، فإنّ الخبر يستحق التوقف.
كما تقول أُغنيةٌ لشارل أزنافور: "أحدّثكم عن زمن، لا يستطيع أن يعرفه من هم دون العشرين". شخصياً، لم أتمكّن من الاشتراك في المكتبة إلا بعد التخرّج الجامعي. وهناك من لم يدخلها إطلاقاً لعدم توفّر الشروط. أي معنى لذلك؟ ربما هو شكل من أشكال حماية النار المقدّسة للمعرفة.
في تلك السنوات قبيل 2011، يجري التعامل مع القرارات البيروقرطية مثل وحي منزّل، فما بالك بتلك التي تأتي من مبنى ضخم معلّق في أعالي هضبة من هضاب تونس العاصمة، كي تبلغه عليك أن تصعد أكثر مئة درجة، بما يعني أنك أهدرتَ نصف الطاقة التي أتيت بها فقط في الوصول إلى الباب. لكن لا حيلة لك، فوحدها "المكتبة الوطنية" تستطيع أن تؤمّن ما بتّ تحتاجُه من معرفة، وأنت تعلم أن ما حولها من مكتبات عمومية وجامعية باتت لا تفي الغرض. ربما بسبب هذا الفقر المحيط بها تسمح "المكتبة الوطنية" لنفسها أن تفعل بمريديها ما تشاء.
مبادرات كثيرة لتطوير المكتبة لكنّ بُرودتها ظلّت مزمنة لدى روّادها
هكذا ندخل أكبر مكتبات تونس العاصمة، أوّل الأمر، بعد المرور بتكنولوجيات بيو-سياسية تُخضع الفكر والجسد وتقولبهما بشكل مسبق. وقس على ذلك مجمل المنشآت العمومية في تونس، فليست المكتبة الوطنية استثناء، فلكل مؤسسة تقنياتها الإخضاعية، من مركز الشرطة إلى المدرسة، وكلها منشآت يفترض أنها تسهر على خدمة المواطنين. بيد أنها تعرف كيف تعفي نفسها من كُتلة العمل فتجعل من المطالبة بخدمة بسيطة أعسر من تحرير بلد مستعمر، وهذه الماكينة البيروقراطية لا تفعل فعلها في المواطنين فحسب، بل يقع مسيّروها أنفسهم تحت رحمتها فلا يعرفون كيف يغيّرون شيئاً من توجّهاتها.
من المبنى العملاق لـ"دار الكتب الوطنية" لن يعرف الزائر أكثر من بضع قاعات، أبرزها قاعة رئيسية للقراءة في الطابق الثاني، وعلى مسافة أعوام لم أر نية في توسعة هذا الفضاء، ودعمه بقاعات قراءة أخرى. أما رفوف تلك القاعة فلا تكاد تتغيّر عناوينها بمرور السنوات، ولم تظهر بركات التكنولوجيات الحديثة بشكل واضح في عمليات طلب الكتب من المخازن.
في السنوات الأخيرة، بدا أن "دار الكتب الوطنية" قد بدأت تراجع نفسها، وفي هذا السياق انفتح فضاء اليافعين ليتعرّفوا بشكل مبكّر على هذه القلعة المنيعة، وقبل ذلك جرى تخصيص قاعة للمكفوفين. باتت المكتبة منذ سنوات فضاء نشيطاً للندوات والمحاضرات، وهيّأت إحدى قاعاتها كرواق فنّي، كما ظهرت مبادرات نشر كثيرة انتشلت المؤسسة من مربّعها الوظيفي وأُطلقت مشاريع بيبليوغرفية مهمة، كما بدأت عملية رقمنة محتويات المكتبة، ولعلها أكبر مؤشرات الانفتاح.
كل ذلك لم يُلغ بعد وجه المكتبة العَبوس، وظلّت بُرودتها مزمنة وخيالُها محدوداً. لكن هل لنا الحق في أن نطلب منها أكثر مما تُقدِّم، وإن المكتبات - كما لا يخفى - شبيهة بالمدن التي تسكنها.