في تاريخ الاستقبال الغربي للفلسفة العربية الإسلامية، يُعَدّ ابن رُشد من أوّل الذين جرت ترجمتهم إلى لُغات القارّة العجوز، حيث لم تمضِ إلّا سنواتٌ معدودة على رحيله (1126 ــ 1198) حتى نُقل بعضٌ من أعمالها إلى اللاتينية، ولا سيّما تعليقاته وشروحاته لنصوص أرسطو، التي كانت حلقة الوصل الأساسية بين التفلسف في العالَم العربي والعالَم الأوروبي.
رغم هذه "المعرفة" القديمة بأعمال صاحب "فصل المقال"، إلّا أن أنها ما تزال بعيدةً عن أن تكون في متناول القرّاء الغربيين، أو الفرنسيين على الأقل، حيث تُعرَف القلّة التي تدرّس وتدْرس الفيلسوف القرطبي بقراءة بعض نصوصه غير المترجمة إلى الفرنسية إمّا في لغتها الأم، العربية، أو عبر وسيطٍ مثل الإنكليزية.
هذا ما كان عليه حال "تهافت التهافت"، الذي نُقل إلى الإنكليزية منذ عقود، فيما لم تظهر منهُ في الفرنسية إلّا بعض المقاطع في كتاب نصوص مختارة من ترجمة مارك جوفرا (في كتابه "الإسلام والعقل"، 2005)، لكنّ العمل بات اليوم متاحاً بلغة موليير للمرّة الأولى في صيغته الكاملة، حيث صدرت ترجمته أخيراً عن منشورات "فْران"، بتوقيع الأكاديمي الجزائري الطيب مريان.
ومن المعروف أن ابن رشد يردّ في هذا الكتِاب على "تهافُت الفلاسفة" للغزالي الذي انتقد فيه الفلسفةَ وحاول تفنيد عددٍ من أطروحات ابن سينا بشكل خاص، وكذلك الفارابي، في الماورائيات، ولا سيّما حول خلْق العالَم، وأزليّته، وحول منزلة النفس، والجسد، وغيرها من المسائل. ويعلّق ابن رشد على انتقادات الغزالي واحدةً بعْد أُخرى، مُحاولاً تبيان هشاشتها، وساعياً في الوقت نفسه إلى الدفاع عن الفلسفة كضرورة لفهم الدين والنصّ الإسلامي، من بين أمورٍ أُخرى.
وقد اختار مريان ترجمةً فرنسيةً للكتاب مختلفة عن تلك المتعارف عليها في الأوساط الأكاديمية الفرنسية (Incohérence de l'Incohérence)، مفضّلاً عبارة التقويض (Destruction de la destruction) بدلاً من عدم التناسُق (Incohérence)، فاتحاً بذلك كتاب ابن رُشد على معاجم فلسفية معاصِرة، حيث يحمل مفهوم "التقويض" أبعاداً هايدغرية، إذ استخدمه الفيلسوف الألماني في إطاره تقويضه للميتافيزيقا الغربية، في حين استلهم منه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مفهوم التفكيكية (Déconstruction) الذي سيقترن اسمه به.