"تعدّد هويات الخليج العربي": صور التاريخ وامتحاناته

17 مارس 2022
من الندوة (العربي الجديد)
+ الخط -

فتحت ندوة "الهويات في الخليج العربي"، التي أُقيمت اليوم الخميس في الدوحة، أسئلة كبرى عن الإطار النظري للهويات في هذا الحيّز الجغرافي وتمثيلاتها الثقافية والسياسية والاقتصادية، بما في ذلك من تحولات تاريخية ارتبطت خصوصاً بخروج بريطانيا من المنطقة ونشأة دول حديثة منذ نصف قرن.

استضاف "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" هذه الندوة التي أطلقتها وزارة الثقافة القطرية في إطار فعالية هي الأولى من نوعها للوزارة، تحت عنوان "موسم الندوات"، وحملت عنوان "الهويات... إنسانية أم محلية؟ الثقافة وتعدد الهويات في الخليج".


طبقات تاريخية

بوصفها طبقات تاريخية، ذهب حيدر سعيد، رئيس قسم الأبحاث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" إلى أن الهوية شيء مركب، سواء للجماعات أو الأفراد، لافتاً إلى أن الهوية الخليجية حديثة مقارنة بالهوية العربية والإسلامية أو حتى الهوية النجدية أو الحجازية أو الجزيرة العربية.

لكنه يلاحظ أن لدى القول: "نحن عرب ومسلمون وننتمي إلى الجزيرة العربية تأخذنا سياقات سياسية في الغالب للتركيز على بعد واحد، أو على طبقة واحدة، فتنشأ ديناميكية سياسية تستند إلى هذه الهوية".

وفي بحثه في الإطار النظري، يستعيد المتحدث ملاحظة يجدها جديرة بالدرس تتمثل بوجود كمّ كبير من المؤلفات حول الخليج، في ثلاثة عقود على التوالي منذ الخمسينيات، وتحديداً في دول لعبت دور حواضن القومية العربية، وهي مصر وسورية والعراق، في الفترة التي شهدت منطقة الخليج صراعاً على امتلاك قرارها السياسي.

ومستنداً إلى قراءة الوثائق السياسية المبكرة التي أنشأت الخليج بدءاً بالاتحاد التساعي سنة 1968 ثم الاستقلال 1971، يقول إن الخليج هنا ظهر كمعطى سياسي يتحدث عن الانتماء، مشيراً إلى فراغ القوة الذي تركه انسحاب بريطانيا وخشية الإمارات الصغيرة من القوى الموجودة في المنطقة، وخاصة إيران، ما يقود إلى نتيجة مفصلية هي أن هذه الإمارات الصغيرة التي نالت استقلالها عام 1971، هي التي تشكل قلب الخليج.

وفرّق المتحدث بين الهوية كمعطى تاريخي، وبين الوعي بها أو نشوء خطاب لها، لدرس السياق الذي أنتجها خليجياً، مع الانتباه دائماً إلى أنه لا توجد صيغة مثالية للهوية، على حد تعبيره.


صعود الهويات

وحول خفوت الحديث عن هذه الهوية مقابل صعود هويات أخرى، تطرق سعيد إلى ظهور مجتمعات خليجية، جاذبة للمهاجرين بسبب استقلالها الحديث والوفرة الاقتصادية إلى الحد الذي أصبح الخليجيون في معظم البلدان الأقل تعداداً قياساً بمقيمين يحملون معهم هوياتهم.

هذه العقود القليلة من النشأة حتى اللحظة الراهنة خلقت افتراضاً يفيد بأن التحولات ستذيب الهوية الخليجية في إطار هذا المجتمع متعدد الهويات وفي إطار فضاء افتراضي باتت فيه القيم عابرة بسهولة، مبيناً أن ذلك دفع نشوء مقاومة عبر التمسك بالبنى الرمزية، سواء في الملبس أو الطعام وطريقة العيش والتجمع... وغيرها.

محكات عديدة توقف عندها المتحدث، بقيت فيها الهوية الخليجية تلعب دورها بوصفها إطاراً للحماية، حتى إنها حاولت أن تكون بديلاً من الهويات الوطنية، لكنها أمام منعطف هام إبان حصار قطر قبل عدة أعوام، وجدت نفسها أمام تصعيد الهوية القطرية، موضحاً أن الثقافة ليست محدداً للهوية السياسية، بل عملية تصنع لاحقاً عقب لحظة سياسية. 

 
مرجعيات ضيقة

من ناحيته، ابتعد الكاتب عبد العزيز الخاطر عن الإطار النظري الذي يشمل الشكل الخليجي برمته في شبه الجزيرة العربية إلى فحص الهوية الإنسانية والمحلية وملامسته خطورة تبعات الانخراط المحموم في الهوية المحلية.

بحسب قراءته، فإن خمس سنوات مضت بدا فيها انشغال الهوية درجة "أصبح أحدنا يشعر بأننا كائنات هوية لا كائنات لها هوية".

والكاتب القطري الذي نشر مقالات كثيرة في هذا الشأن ينظر إلى الهوية الإنسانية موجودةً بقوة وتتنزل على الواقع حسب إمكانية هذا الواقع وقبوله لها.

وحدد الخاطر أول أساس في مداخلته بأنه لا يمكن تصور الهوية دون تصور مفهوم آخر، وهو الحرية، باعتبار الأخيرة سابقة، "حيث نولد أحراراً ثم نكتسب الهوية".

ومشيراً إلى ما رآه خطراً ينبغي التنبه له، فإن هوية المرجعيات الأولى أو الضيقة القبلية والطائفية تنتشر اليوم بشكل كبير.

طرح المتحدث مفهوم "الضرورة والإمكان"، وفي رأيه أن الضرورة هي جعل الهوية أمراً حتمياً متصلباً، بينما الإمكان هو فتح الباب لقراءة الهويات بوصفها تصورات متعايشة تنبني على أن أياً منا كان يمكن أن يكون الآخر.

يحيل الكاتب ولادة الهويات الضيقة والطاردة للآخر إلى ما أسماه "التأسيس مقابل استئناف الهوية"، ضارباً بذلك مثلاً وجود كتب كثيرة خلال السنوات الماضية تتحدث عن القبائل، لافتاً إلى أن تأسيس الهوية بدل استئنافها يعوق المسير إلى المستقبل، مطالباً وزارة الثقافة بأن تضع في حسابها الاستئناف بدل إعادة تأسيس مرجعيات معيقة.

وبشرح أكثر يعيدنا الخاطر إلى عقود ماضية، حيث يكفي الشخص أن يعيش مكتفياً باسم "عبد الله محمد أحمد" إلى أن أجبرته تحولات المجتمع على البحث عن صيغة قبلية ينتمي إليها، وهذا هو ما رآه خطوات قطعت للقضاء على استئناف الهوية، بمعنى فتحها لتكون مساحة الحرية مساوية لمساحة الهوية.


هويات البحر والصحراء

تحت عنوان "الخليج والهوية في هويات البحر والصحراء الاقتصاد والدولة الحديثة"، تحدثت أمل غزال، أستاذة التاريخ وعميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

بالنسبة إليها، إن ما بين المحلي والخليجي والعربي والإسلامي والإنساني، فإن الثقافة والهوية لها محددات تاريخية واقعية، ومنها أيضاً المتخيل.

ومشيرة إلى عنوان الندوة الذي يتحدث عن الهويات بالجمع، تلاحظ أن الكتابات عن هوية خليجية بالمفرد تتشابك بين الدول الخليجية سواء قبل أن تصبح مستقلة ذات حدود سياسية أو بعد ذلك.

وبحسب قراءتها، فإن ما حدد معالم هذا التاريخ الخليجي ومساراته عوامل عدة أهما عاملان جغرافيان: البحر والصحراء وما بينهما. فالبحر كالصحراء رابط لا فاصل. وكما للبحر ثقافته واقتصاده وسفنه، كذلك للصحراء ثقافتها وطرقها وقوافلها ومجتمعاتها.

وما تراه المتحدثه بحاجة إلى مراجعة هو ما اعتاده الباحثون في ربط البحر بالحداثة والتغيير، والصحراء بالسكون والفراغ. فلكل ديناميكته - كما تمضي - ودوره التاريخي الخاص به. فالملح والذهب والرق والمخطوطات التي مرت عبر الصحارى أحدثت تغييرات جذرية في سياقاتها التاريخية شبيهة بما أحدثه النفط في الصحراء حديثاً.

كما تطرقت إلى جملة من الأسئلة المعرفية التي ينشغل بها طلاب يبحثون في تركيبات الهوية المحلية والخليجية عموماً، ومن ذلك السعي إلى تأطير التاريخ الخليجي ومفهوم الدولة والسلطة قبل الفترة الحديثة ينتقد فيه مركزية اليابسة في تحديد الهويات والسلطة والدولة والصراعات المحلية والإقليمية.

وفي مطالعتها، ثمة توجه في الفترة الأخيرة لدى بعض الأكاديميين جلّه "لأغراض سياسية يأخذ البعد المحيطي للخليج العربي ليسلخه عن هويته العربية وانتمائه العربي".

هؤلاء وفق ما تقول "ينسون أو يتناسون أن تكون خليجياً هو أن تكون عربياً مسلماً بسمات إضافية أنتجتها الصحراء التي تجمع حدود دول الخليج الحديثة وأنتجتها البحار التي جمعت الخليج جنوباً بشواطئ شبه القارة الهندية والقارة الأفريقية وما وراءهما".

وإجابة عن عنوان الندوة المتسائل عن الإنساني والمحلي، قالت إنها لا تحبذ وضع المحلي في مواجهة الإنساني، إذ إن المعادلة لا تصلح منهجياً، فالمحلية حق وواقع إنساني وسيرورة طبيعية، مع ميلها إلى تأكيد أبعاد وقيم إنسانية في لب الهوية تحدد الإنساني في المحلي، و"إن كان المعنيّ هنا بالإنساني هو العالمي، فهذا نقاش يبداً ولا ينتهي. التمازج والتضارب موجودان في آن واحد ودوماً" كما قالت.

المساهمون