"بيروت من تحت"، الرواية الأخيرة لفوزي ذبيان، ليست روايته الوحيدة التي تحمل في عنوانها اسم العاصمة اللبنانية. "أورويل في الضاحية الجنوبية" (2017) تردّ أيضاً إلى بيروت. "بيروت من تحت" (2021) هي الأخرى تعود إلى جزء من بيروت، ما ندعوه رأس بيروت، وبخاصّة الحمرا فيه.
بيروت هذه ليست كلّ بيروت؛ إنها جانب منها تحوّل، مع الوقت، إلى ملاذ للمثقّفين والكتاب والصحافيين والفنانين. يمكننا لذلك أن نفهم أن "بيروت من تحت" ليست، كما يخطر بأوّل وهلة، موطنَ حضيضٍ اجتماعي، وليست موطن الأكثر فقراً، أو المشتغلين بمهَنٍ أقلّ احتراماً ومشروعية. إنها، على العكس، تضمّ النخبة الثقافية والسياسية، والرواية تدور تقريباً حول هذه النخبة. إنها موئل الشعراء بوجه خاصّ، إذ نُمضي القراءة ونحن ننتقل من أمسية إلى أمسية شعرية.
وعلى غرار أسلوب الرواية وطريقتها الساخرة، بل المضحكة، تنال هذه الأمسيات نصيبها من التهكُّم الذي يصل حدّ التهريج. ولمّا كان الشعراء وأشعارهم وأماسيهم هدفاً دائماً لسخرية الرواية، أو للرواية المؤلّفة من تيّار موصول من التهكُّم والإضحاك، فإن اختيارهم، على وجه الخصوص، لهذه الغاية، يثير تساؤلاً، إذ لا نعرف إذا كان ما يستفزّ ذبيان هي كثرتهم أو حماسهم أو شعرهم نفسه، رغم مواضع قليلة فيها تقديرٌ للشعر، كتلك الاستعادة لقول لفالتر بنيامين، إلّا أن الشعراء، وأوّلهم صاحب التسمية الفكهة "شاعر الخسّة"، يبقون على طول الرواية تحت وابلها الساخر.
ينال الشعراء القسم الأكبر من وابل التهكّم في الرواية
إذا عدنا إلى عنوان الرواية فإننا نفهم أن بيروت المقصودة هنا هي بيروت الحمرا، وهي بيروت النخبة المثقّفة. أماّ التحت البيروتي، فهو هنا تماماً هذا الذي يصدر عن النخبة، إنّه نتاجاتها الأدبية، الشعريّة بخاصّة، والفكريّة ودعاويها السياسية ومصطلحاتها وأركانها ــ كلّ هذا سخفٌ وتحذلق وادّعاء وبلاهة، بحسب الرواية؛ إنّه مجرّد مزاعم وأكاذيب وتظاهر و"تفنيص". سيكون هذا الادّعاء والكذب والحذلقة التحتَ البيروتي. ليس التحت البيروتي، إذاً، سوى افتضاح الثقافة وهزالها وتزويرها. إننا، هكذا، في "تحت النخبة".
صحيحٌ أننا نصادف في الرواية شحّاذين وفقراء وغانيات، لكنّ هذا ليس تحت الرواية. "بيروت من تحت" هي بيروت الشعر المزعوم والدعاوى الزائفة والسياسات المكذوبة. "بيروت من تحت" هي المدينة التي تصنع من بوّابٍ شاعراً، كما زوّد رئيس المجلس الثقافي العلماني البوّاب السوريّ بقصيدة كتبها له الروائي المشهور، بحسب تقديمه لنفسه في الراوية، وغدا البوّاب بعدها مشهوراً كشاعر، بل اصطُنعت له حكاية اغتيال. هذه "بيروت من تحت"، إنها هذه المنظومة من التزوير والكذب والادّعاء، إنها النخبة الموهومة، لكنِ النخبة التي تحمل ادّعاءاتها وأشعارها وأدبها من مكان إلى مكان، ومن حفلة إلى حفلة، في نوعٍ من الرقص الجنوني والهراء الموصول.
رواية فوزي ذبيان هي، بقرابة الأربعمائة صفحة التي تحويها، هذه الفضيحة الموصولة. قد يُفاجئنا أن الراوي "هو الروائي المشهور"، كما يسمّي دائماً نفسه في تهكُّم من الذات، كما يفاجئنا أن نعثر في الرواية على شخصٍ نعرف اسمه حقّاً. أستاذ أنثروبولوجيا جامعي. وقد نتساءل عن الأسماء الحقيقية لآخرين. قد يكون بينهم شاعر الخسّة، إذ نفهم من العبارات الأولى في الرواية أنها ليست محايدةً، وأن الشارع الموصوف (الحمرا) ليس وحده المسمّى، إذ قد يكون للآخرين المنسوبين إليه وإلى مقهى "الكوستا" ــ الذي لم تعاصر الرواية تبديل اسمه الى "روسا" ــ أسماؤهم الحقيقية.
"بيروت من تحت" لا تلتزم بحياد الراوي الذي يسوط الشخصيات التي يروي عنها، غير مبالٍ بأي حياد. إنه يقدمها كما تظهر تحت أنياب سخريته، يقدّمها بكلّ حقيقتها، كما يراها، سخيفةً كاذبة. إنها فقط ما تحتها، فقط داخلها الحقيقي، سخفها وكذبها وادّعاؤها، أي أنها حقيقتها المشوّهة الممسوخة. إنها فقط كاريكاتوراتها، بل إن الرواية لا تروي بقدر ما تسخر، إنها تقدّمها مفضوحة مكشوفة، ولم تعد مغطّاة أو مستورة. إنها الكذب نفسه وهي فقط كاريكاتورات، بل إن الرواية التي تتحرّك فيها كالدمى هي رواية كاريكاتورات.
ذلك لا يتمّ بدون قدرة ــ هي أحياناً، بل غالباً، حادّة ــ على السخرية، بل على التهريج. هكذا نقرأ روايةً لنرى المسخ وقد تحوّل فناً، لنرى النكتة تولد من النكتة، وفي هذا موهبةٌ بلا شكّ، موهبة الإضحاك والتنكيت والطرافة. نضحك مع الرواية ونحن نقرأها ونحطّم معها شخصياتها واحدةً تلو الأخرى.
لكنّ الروائي يريد أن يحرمنا في نهايات الرواية من هذه المتعة. هكذا نرى يمامة الغانية، الكاتبة، تموت وصديقها "الروائى المشهور" يحاول الانتحار حزناً عليها. حين ننتقل إلى هذا الموضع بعد أن قضينا ما قبله، ونحن نقهقه، نتساءل إن كان ذلك يحيلنا إلى قراءة أخرى للرواية. نتساءل أيضاً عمّا إذا كانت رواية تحت السطح تتواصل بدون أن ندري؛ رواية أخرى لا شأن لها بقهقهتنا، والآن آنَ لها أن تخرج وأن نراها فجأة على السطح. نتساءل هكذا إذا كانت الرواية تبكي ونحن نقهقه، إذا كانت قهقهتها وسخريتها وفضائحيتها من القهر. ما أفظعنا.
* شاعر وروائي من لبنان