من أكثر ما تخشاه المنظومات الاستبدادية، أن يسعى الفنّ برسالته إلى المجتمع، لذا تعملُ على تجريد الفنّان من أدواتِه الفكرية أو الجسدية، وعند هذا التقاطُع تبرز أهمّية الفنون الأدائية كونها تجمع بين الإثنين، وتُراهن على مفهوم الحركة لا الثبات من أجل الحريّة والتغيير.
باستلهام من الإرث الفنّي التونسي قبل مئة عام، قُدِّمَ العمل الأدائي (الكوريغرافي) "بلدي يا بلدي" كعرض أوّلي يسبق الافتتاح الرسمي لمهرجان "أيام قرطاج الكوريغرافية" الذي انطلق أوّل أمس السبت في تونس العاصمة، ويستمر حتّى الثامن عشر من حزيران/ يونيو الجاري.
جمعَ العمل كُلّاً من المخرج رضوان المؤدّب بالمؤدّية ملاك السبعي، وبمرافقة فنّية من عازف البيانو سليم عرجون، بالإضافة إلى التشكيلية هالة عمّار، وتقوم فكرته على تجسيد حركي لحياة الفنّانة التونسية حبيبة مسيكة (1903 - 1930) التي تُعتَبرُ سيرتها مثالاً على الجرأة والالتزام، في وقت لم تكن فيه المرأة قادرة على المشاركة في الفضاء العام.
من ناحية ثانية، يشتبكُ في العمل خطّان من الرمزية، فالقائمون عليه منحوه عنواناً آخر بالفرنسية هو "سوف تحرقنا النار جميعاً" وهذا لا يُحيلُ إلى تلك اللحظة من الماضي فقط، عندما قُتِلت فيها حبيبة مسيكة حرقاً، إنّما يُذكّر أيضاً بشرارة الربيع العربي الأولى التي انطلقت من تونس بإشعال الشاب محمد البوعزيزي النّار في نفسه احتجاجاً على المنظومة المستبدّة الحاكمة.
ظلّت ملاك السبعي تعود في أدائها إلى وضعيّات تنكمشُ فيها على ذاتها، وكأنّ الانكماش هو المَرجِع الذي ترتدّ إليه بعد كلّ خطوة سريعة أو وثب مفاجئ، ربّما كنوع من الدلالة على التعب الذي سرعان ما يُحيط بالنساء في بيئة تُعيق حركتهنّ وترى فيها ضرباً من اللامألوف.
وبين محطّة وأُخرى يهتزّ فيها الجسد بمزيج من العنفوان والثورة، كما تتكثّف كلّ الاحتمالات الاجتماعية والفنّية من خلفه، يرى الجمهور أنّه أمام مسرح أدائي يبني على الواقعية التي تعكس صورته في التوق إلى الحرّية.